بعد نفي الإمام الخميني إلى تركيا في الثالث عشر من آب عام 1964، تصاعدت الاحتجاجات في مختلف المدن الإيرانية. فأضرب التجّار عن العمل، ووقف المراجع والعلماء في الحوزات العلمية في قم والنجف ضد هذا الإجراء الذي قام به النظام. كما تعرّض مسجد الجمعة في طهران لهجوم من قبل الشرطة، ومع قمع هذه الاحتجاجات، اعتُقِل جمع من التجّار ورجال الدين والناس. وكان نظام الشاه يخشى من اتّساع هذه الاضطرابات، فقام بإخفاء مكان نفي الإمام في تركيا. ولكن ضغط الرأي العام أجبر حكومة منصور على الرضوخ لمطالبة العلماء بالاطمئنان على صحة الإمام، فأُوفِد ممثلو المراجع إلى تركيا، وإن لم يتم اللقاء في محل إقامة الإمام.
مضى أحد عشر شهراً على الإقامة القسرية للإمام الخميني في تركيا. وكانت الأوضاع في إيران متوترة، والضغط الشعبي مستمراً. كما أن الرقابة التي فرضتها الحكومة التركية – بوصفها حكومةً علمانية وتحت ضغط القوى الإسلامية فيها – باتت تشكّل عبئاً عليها. وفي الوقت نفسه كان نظام الشاه يحاول من خلال دعاياته المستمرة أن يُظهر الأحداث الأخيرة صغيرة وغير ذات أثر، وأن يروّج لفكرة أنه بعد إبعاد الإمام الخميني لم يعد هناك أساس للمعارضة. لذلك تقرّر نفيه إلى العراق. ورأت السلطات أن جوّ الحوزة العلمية في النجف – بما فيه من ركود وبعدٍ عن السياسة – سيكون مانعاً طبيعياً أمام نشاط الإمام، ولن تكون هناك حاجة للرقابة المباشرة. وبناءً عليه، توجّه الإمام الخميني مع الشهيد آية الله السيد مصطفى الخميني من تركيا إلى العراق يوم الثلاثاء 13 مهر 1344 (5 تشرين الأول 1965).
وقد استُقبل الإمام الخميني (قدس سره) في العراق من قبل الناس والعلماء استقبالاً كبيراً. وبعد عشرة أيام من دخوله العراق، أي في 23 مهر 1344 (15 تشرين الأول 1965)، وصل إلى النجف الأشرف وسط استقبال غير مسبوق.
وبعد استقراره في النجف، ومن دون الالتفات إلى المؤامرات، عزم الإمام على أداء رسالته في مواجهة الأفكار المنحرفة وغير الإسلامية. وبعد لقائه عدداً من العلماء ومناقشة الأوضاع معهم، أدرك أن الحديث عن النهضة الإسلامية في إيران وانتظار الدعم في بيئةٍ روّجت فيها أيدي الاستعمار لشعار “فصل الدين عن السياسة” وأبعدت الأذهان عن الإسلام الأصيل، أمرٌ لا يتصف بالحكمة.
لذلك رأى الإمام أن يبدأ أولاً ببيان مسؤوليات الطلاب والعلماء وزعماء العالم الإسلامي، وإزالة الغبار الذي تراكم على صورة الإسلام. ومع أنه كان يرى وجوده في النجف مؤقتاً، قرّر البدء بالتدريس، ليوضح لتلاميذه – من خلال دروس الفقه والأصول – حقيقة الإسلام المحمدي الأصيل.
وفي أول خطابٍ ألقاه الإمام الخميني (قدس سره) بمناسبة بدء درسه في 23 آبان 1344 (14 تشرين الثاني 1965)، تناول سيرة صدر الإسلام، والمكانة السامية لبلاد المسلمين، ومسؤوليات مختلف فئات الأمة الإسلامية.
كما تحدّث في خطابه عن ضرورة استخدام “سلاح النفط” الذي وهبه الله للمسلمين، وذكّر حكّام البلاد الإسلامية بحاجات القوى الكبرى إلى نفط هذه الدول وثرواتها. وأكد أن الصلاة والدعاء إنما يمثلان باباً واحداً من أبواب الإسلام، وأن المسجد كان مركز قيادة وإدارة ومناقشة شؤون الأمة. ورفض الفكر الذي يحصر الإسلام في الطهارة والعبادات، وشجب نظرية “فصل الدين عن السياسة” الاستعمارية، وسعى لإزالة اليأس والانهزامية التي ترسّخت في نفوس المجتمعات الإسلامية، وفي عقول العلماء والحكام، ولإحياء عزّة المسلمين وكرامتهم.
وقد هزّ هذا الخطاب التاريخي، قبل كل شيء، الحوزة العلمية في النجف التي كانت تعيش ركوداً لأكثر من نصف قرن، ولاقي ترحيباً واسعاً في الأوساط الثقافية والطلابية. ولأن الإمام شدّد فيه على مواجهة الاستعمار والاستبداد، والاستفادة من سلاح النفط ضد القوى الناهبة، فقد أثار الخطاب غضب جهاز السافاك، الذي أمر بدراسة النص بدقة للعثور على أي نقطة ضعف يمكن استغلالها. وجاء في أمر رئيس السافاك: «يجب الاستفادة من نقاط الضعف في هذا الخطاب، وجعل المخالفين لخميني يدينون هذه التصريحات الصادرة عن قائد ديني».
ولكن لم يُعثَر على أي نقطة ضعف، فتحطّم مخطّط السافاك، بل نُشر نصّ الخطاب على نطاق واسع على يد أنصار الإمام، وترجمه الطلاب المسلمون المقيمون في أمريكا إلى الإنجليزية ووزّعوه بشكل واسع. وكان استقبال العلماء والطلاب في كربلاء والنجف للإمام أبعد ما يكون عن توقّعات من ظنّ أنهم سيواجهون الإمام باللامبالاة.
-----------------
القسم العربي، الشؤون الدولية.