سقوط الإمبريالية يبدأ بكلمة واحدة

لطالما تساءلنا عن الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة تتبنى الفكر الإمبريالي، مما يجعلها تتصرف وكأنها سيدة العالم وشرطي البحار والمحيطات، وتنفق أموالا مهولة على ترسانتها العسكرية، وتخاطر بحياة جنودها.

ولكي نجيب على هذه التساؤلات، لا بد أن نفهم الفلسفة التي انبثق منها هذا الفكر الذي أباح الاستحواذ على أراضي السكان الأمريكيين الأصليين، وأحل التهجير القسري العنيف لهم من أراضيهم، وأجاز تدميرهم ثقافيا. الفكر الإمبريالي انطلق من فكرة القدر المحتوم، وهذه الفكرة تقوم على أن المستوطنين الأمريكيين الأوائل كانوا يعتقدون أن الله قدّر لهم أن يتوسعوا عبر قارة أمريكا الشمالية، وأن رسالة إلهية ومهمة أخلاقية أوكلت لهم ليكونوا قدوة للعالم، لنشر الحضارة وأسلوب الحياة الأمريكية، وتجربة الحرية والديمقراطية الأمريكية في بقاع العالم.

الفكر الإمبريالي يقوم على مبدأ، الغاية تبرر الوسيلة، ولكن هذا الفكر لا يعلن هذا المبدأ بشكل واضح أو صريح، وإنما يخفيه وراء لغة أخلاقية أو لغة متحضرة. فالإمبريالية ما هي إلا ممارسة الهيمنة والتحكم بالشعوب والحكومات، ولتحقيق هذه الهيمنة فإنها لابد أن تتستر بواجهات مزوقة وبراقة تجعل ما تقوم به من غزو وتركيع وإكراه وسيطرة وعقوبات اقتصادية على الدول والشعوب، مبررا وضروريا من أجل تحقيق غايات سامية مزعومة مثل، نشر الدين أو إدخال الحضارة والتنمية، والديمقراطية، أو الدفاع عن حقوق الإنسان، هذا الفكر يعتبر أن معاناة الشعوب التي تتعرض للهيمنة بكل أشكالها هو ثمن يستحق أن يدفع من أجل أهداف يعتبرها هذا الفكر أهم وأغلى من الإنسان نفسه، وبالتالي فإن آخر ما يهمه هو الإنسان في المجتمعات التي تتعرض لهذه الهيمنة، فهو لا يعبأ أبدا بما يتعرض له في هذه المجتمعات من قهر ومعاناة ومرض وجوع، جراء السياسات الظالمة التي يفرضها على الشعوب، لأنه ينظر لهم على أنهم أدنى بشرية من الناس في مجتمعه هو.

أما الدوافع الحقيقية للفكر الإمبريالي فقد كانت وما زالت دوافع اقتصادية مثل الحصول على مصادر جديدة للثروة والطاقة وأسواق جديدة لتصريف البضائع الأمريكية، والسيطرة على طرق التجارة العالمية، والحصول على تموضع عسكري استراتيجي وتحقيق شكل من أشكال الهيبة الوطنية.

وهكذا أصبحت الولايات المتحدة قوة إمبريالية ذات مستعمرات خارجية تمتد خارج أراضيها عبر قواعد عسكرية تتمركز في بقاع شتى حول العالم. وتطور هذا الفكر وبدأ يرتدي أقنعة تختلف عن أقنعة الماضي. فلم يعد الاستعمار يعني الاستحواذ المباشر على الأراضي فقط، وإنما اتخذ أنماطا خفية أخرى مثل عدم استقلال القرار السياسي والتبعية الاقتصادية والهيمنة الثقافية، وفرض العقوبات الاقتصادية ووضع الدول والمنظمات على قائمة الدول المارقة وعلى قائمة الإرهاب، حسب التعريف الإمبريالي، وكلها تمارس دون سيطرة رسمية واضحة. فالقوى التي تتبنى الفكر الإمبريالي دائما ما تزعم أنها تعرف ما هو الأفضل للدول والشعوب الأخرى ومن يحق له استخدام القوة من أجل تحقيق ما تدعي أنه سيحقق للعالم السلام، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وأنها وحدها من يحق له تجاوز الحدود الأخلاقية والأعراف والمواثيق الدولية، فتصبح الهيئات الدولية، مثل الأمم المتحدة أو مجلس الأمن لا قيمة لها ولا قيمة لقراراتها. فكلنا نتذكر كيف علقت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية خلال إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون على العقوبات الاقتصادية الصارمة التي فرضت على العراق في تسعينيات القرن الماضي عندما سألت عما إذا كانت الأهداف التي تريد الولايات المتحدة تحقيقها من وراء فرض العقوبات الاقتصادية تستحق أن يموت من أجل تحقيقها أكثر من نصف مليون طفل عراقي، فكان ردها هذا ثمن هذه الأهداف يستحق أن يدفع. وهكذا نفهم أن الفكر الإمبريالي هو فكر لا أخلاقي ولا إنساني، فكر قائم على تبرير اللصوصية والتنمر والعدوان، فكر يعتبر الآخر المختلف أدنى منزلة منه، وبالتالي يجوز غزوه وسرقته واستعباده ونهب ممتلكاته وتغيير ثقافته. أما الدول التي تتحدى هذا الفكر وتعارضه فإنها تؤدب بشتى الوسائل مثل العقوبات الاقتصادية والابتزاز السياسي ونشر الفوضى وتمويل المعارضين وغيرها.

إن سيطرة الفكر الإمبريالي على وسائل الإعلام في الولايات المتحدة، أثر على الوعي العام للشعب الأمريكي، وجعله مستعدا لقبول التدخل في شؤون الدول باعتباره ضروريا ومشروعا لحماية الأمن القومي الأمريكي والمصالح الوطنية الأمريكية، وأنه ينطلق من مهام أخلاقية لنشر الديمقراطية والحرية والتحضر من دون فهم للعواقب الإنسانية الوخيمة لهذه التدخلات. العقوبات الاقتصادية ضد العراق مثلا لم يكن لدى الشعب الأمريكي معرفة بالكارثة الإنسانية اليومية الذي خلقتها بسبب نقص الغذاء والدواء، لأن الأعلام الأمريكي الموجه كان متحيزا ولا يركز إلا على جانب واحد، وهو آراء الرئيس صدام حسين المناهضة للإمبريالية الأمريكية وطموحاته بتطوير أسلحة الدمار الشامل ودعمه للقضية الفلسطينية، ورغم وجود معارضة لفرض العقوبات الاقتصادية القاسية والمجحفة، باعتبارها شكلا من أشكال العقاب الجماعي المؤذي، بين بعض السياسيين والناشطين الأمريكيين والجماعات الكنسية وقوى اليسار والمنظمات الإنسانية غير الحكومية وبعض أعضاء الكونغرس إلا أن هذه المعارضة لم تصبح قضية جماهيرية كما حصل في حرب غزة الأخيرة.

لقد أدركت الشعوب الغربية ومنها الشعب الأمريكي أن الغايات لا يمكنها أبدا أن تبرر المساس بإنسانية الإنسان من خلال سياسات الاحتلال والعقوبات الاقتصادية والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتغيير أنظمة الحكم فيها، أو جعلها منقوصة السيادة عبر إقامة القواعد العسكرية فيها. فبعد حرب غزة الأخيرة تعالت أصوات الكثير من الأمريكيين بلغة جديدة لم نسمع بها قبلا. فلأول مرة في تاريخ أمريكا بدأنا نشاهد مواطنين أمريكيين يصرحون جهارا بأنهم لا يرغبون بأن تتورط بلادهم في حروب جديدة نيابة عن إسرائيل، وأن هذه الحروب تستنزف أموال دافعي الضرائب الأمريكيين، وتدمر ملايين الأمريكيين الذين يخسرون حياتهم في حروب إمبريالية لا يرون أي جدوى منها في بلدان وأراضٍ تبعد عن أمريكا ملايين الأميال. حرب غزة جعلت معظم الشعب الأمريكي يصرح بأن مشاكل إسرائيل وصراعاتها وأعدائها في الشرق الأوسط لم تعد تعنيهم، وهم ليسوا مسؤولين عن التدخل فيها أو المشاركة فيها لا ماديا ولا عسكريا. لقد أدرك المواطن الأمريكي ولأول مرة أنه تم استغفاله واستغلاله على مدى عقود، من أجل أهداف لا إنسانية قائمة على التلاعب بالشعوب الأخرى واعتبارها أدنى من البشر، وبالتالي فهي لا تستحق ما يستحقه المواطنون الأمريكيون من الحياة الكريمة والرفاهية والاستقرار. كما أدرك أن السياسة الخارجية الأمريكية لا يديرها الأمريكيون أنفسهم، وإنما تديرها إسرائيل وتوجهها حسب مصالحها هي لا مصالح أمريكا.

مجزرة غزة طافت على بيوت الأمريكيين وصفعت إنسانيتهم المغيبة وجعلت الوعي العام للشعب الأمريكي يأخذ اتجاها جديدا يشكك بالسياسة الأمريكية الإمبريالية وينتقدها انتقادا حادا ولاذعا، ويتهمها بأنها أهدرت موارد هائلة على التدخلات العسكرية الخارجية العبثية بدلا من تلبية الاحتياجات المحلية وتنمية المدن الأمريكية التي يعيش معظم سكانها تحت خط الفقر، وتمتلئ بالمشردين الذين لا مأوى لهم ويعيشون في زوايا حارات وشوارع تعج بالأزبال والمخدرات والعصابات. يقال إن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة فهل ستسقط الإمبريالية الأمريكية بعد دوي ملايين الأصوات المعارضة.

____________________________

 شهباء شهاب ، كاتبة عراقية .

-------------

القسم العربي ، الشؤون الدولية ، جريدة القدس العربي .

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء