إذا كان ما جرى في عاشوراء فريداً في تاريخ الإنسانيةّ، ولم تشهد الإنسانيةّ واقعة مثلها، على مدى حياتها، كما يقول الإمام الخامنئيّ، الذي استقى كلامه من معدن الرسالة وأهل بيت النبوّة عليهم السلام، الذين قالوا: "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله"، كما عن إمامنا الحسن عليه السلام، "ولا يوم كيوم الحسين" ، فإنّ هذا الأمر يلُقي على عاتقنا مسؤوليةّ خاصّة في كيفيّة التعاطي مع هذه الحادثة الاستثنائيّة، إن من حيث المضمون أو المنهج أو التحليل والدراسة، أو الاستفادة على صعيد الدروس والعبر فبكل تأكيد لا ينبغي الاكتفاء بعرض الحادثة، كما ذكرها المؤرّخون والرواة، فإنهّا وعلى ما في هذا العرض من غثٍّ وسمين لدى بعضهم أحياناً ستتحوّل حينئذٍ، إلى مجرّد حدث تاريخيّ لا يربط الماضي بالحاضر، ولا يستشرف المستقبل، وهو ما يتنافى مع عظمة عاشوراء التي ينظر إليها كنهج، وإلى كربلاء التي يرتبط فيها كقضيّة وقد قام العديد من العلماء والمحقّقين والباحثين، وعلى طول التاريخ، بتقديم الشيء الكثير على صعيد البحث والتحقيق والدراسة، غير أنّ أهميةّ هذه الواقعة وعمق أبعادها وتجذرّها في الوجدان، وعظيم ما تحمله من دلالات، جعلت منها معيناً لا ينضب ماؤه ولا يرتوي ورّاده ، فبالرغم من جميع ما قدّم إلى الآن، يبقى الكثير من الجوانب التي يجد القارئ أو الباحث أو المحققّ أنهّا لا زالت بحاجة إلى بحث وتمحيص، وتحليل وتعميق ففي أيام محرم الحرام تقام خلال الأيام العشرة الأولى من محرم المجالس الحسينية وتسيرّ المواكب لاستذكار الحدث والتعبير عن الحزن بالبكاء ولطم الصدور، وينتشر اللون الأسود تعبيراً عن الحزن ليشمل اللباس والرايات الحسينية ،وتعد تلك المجالس والمواكب، التي يرافقها تقديم الطعام لمن يحتاجه، من أهم الطقوس لدى المسلمين الشيعة الذين يؤمنون بأن لمقتل الحسين دوراً في ترسيخ الدين وديمومة المعتقد، لما يملكه من شاهد على الثبات على المبدأ والمطالبة بالحق، وفي بعض المناطق يتضمن إحياء الذكرى مسرحية للحدث، إذ تقدم عروض في الهواء الطلق تسمى "التشابيه" تروى خلالها أحداث واقعة كربلاء وتجسد شخصيتها الرئيسية، بحضور أعداد غفيرة من الجمهور بالتوازي مع هذا الحدث العظيم وبعد أربعين يوم من هذا الحدث يأتي يوم " أربعين الحسين عليه السلام" في العشرين من شهر صفر حيث يجري إحياء ذكرى مقتل الحسين، وأربعينيته كذلك، في مدينة كربلاء التي يؤمها الزوار من مناطق مختلفة في العراق وخارج العراق ، لكن طقوسها تمارس أيضا في المدن الأخرى التي تقطنها غالبية شيعية في العراق، إضافة الى بلدان أخرى...
للتذكير فإن السلطات العراقية إبان حكم الطاغية صدام قد اتخذت إجراءات للحد من ممارسة طقوس الشيعة الذين يشكلون الأكثرية السكانية في البلاد ، لكن إجراءات التضييق تلك لم تكن الأولى من نوعها في التاريخ، فقد تعرضت الطقوس الشيعية إلى مواقف مشابهة في فترات تاريخية سابقة ، وقد أشار المؤرخون الشيعة إلى أن شعائر عاشوراء منعت في بعض الحواضر إبان حكم المماليك الذين حكموا العراق بين منتصف القرن الثامن عشر إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر ولكنها استؤنفت في ما بعد خلال الحكم العثماني عندما وقعت الاستانة وثيقة سلام مع الإيرانيين إثر انتهاء حكم المماليك ، كما جرت مساع أخرى للسيطرة عليها في فترات أخرى من تاريخ العراق الحديث وخاصة في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، أي إبان الحكم الملكي ويعد الدافع السياسي من أهم العوامل التي تحدو بالسلطات إلى اتخاذ إجراءات لتقييد تلك التظاهرات ومنع تحولها إلى أداة ضغط سياسية، لكونها مناسبة للتعبير عن الاعتراض أو الرفض أو الاحتجاج، وربما تشكل حافزاً للانتفاضات العشائرية والشعبية ، ولكن ما شهده العراق عام 2003 م مع انهيار نظام صدام إثر دخول القوات الأمريكية وحلفائها البلاد ،
غيرّ من الخارطة السياسية إذ حصل الشيعة على تمثيل بارز في الحكومة، بعد أن كانوا في الظل أثناء الحكومات التي توصف بأنها "سنية" في الفترات التي سبقت ذلك التاريخ وبعد إجراء انتخابات برلمانية في العراق هيمنت الأحزاب الإسلامية الشيعية على الحكومة بمشاركة قوى سنية وكردية حسب الترتيبات التي أفرزتها مرحلة الاحتلال وما بعده ،ومنذ ذلك الحين، أصبحت ممارسة طقوس عاشوراء وغيرها من المناسبات الدينية تجرى بحرية وأحيانا دون قيود ، لكن تلك التجمعات أضحت هدفا سهلا للهجمات الانتحارية والتفجيرات التي نفذتها جماعات متشددة مثل "داعش" وأخوتها أثناء وجود القوات الأمريكية في البلاد وبعد خروجها في نهاية عام 2011 م.
على كل مسلم واع وملتزم أن يطرح هذا السؤال " كيف يمكن أن نكون أوفياء للحسين عليه السلام " ؟؟؟ هذا السؤال الذي لابد ألا يغادر اذهاننا ما دامت الدماء تسري في عروقنا، لاسيما ونحن نعيش أيام احياء ذكرى أربعينية الامام الحسين عليه السلام وتوجه الجموع المليونية صوب قبلة الاحرار عند ضريح السبط الشهيد ، ألا من ضحى بدمه من أجل الإنسانية وقدم أهل بيته صلوات الله عليهم يستحق من البشرية ان تثُمن هذه
التضحيات الجسيمة التي قدُمت على رمضاء كربلاء، وفي ذلك المضمون هنالك جملة من الأشياء تمثل الوفاء للنهضة الحسينية الخالدة والسير على خطى الفكر المحمدي الأصيل.
محمد عبد القادر بوكريطة الحسني
باحث اسلامي -الجزائر