ككل الحروب على مدى التاريخ، توجد ملاحم تغير ملامح الظلم والاعتداء، وتعيد إلى أصحاب الحقّ جذوة الانتصار بعد اختبار الهي يمتحن فيه قلوب عباده بمدى تمسّكهم بفطرتهم ودينهم وأرضهم وعرضهم.
هي إذا مدينة خرمشهر الايرانية الواقعة في محافظة خوزستان شهدت على هذا الوعد الالهي حيث كان النصر التام والسّاحق حليف قوات حرس الثورة الاسلامية والجيش الايراني التي دخلت المدينة على أشلاء الظلم والقهر الّذي جلس على صدرها قرابة ال 578 يوما.
19 شهرا من الاحتلال ابتداءا من تشرين الآول من العام 1980، عاث البعثيون في المدينة خرابا ودمارا، الّا أن عمليّات بيت المقدس التي تزامنت مع بعثة الرسول الأكرم (ص) آنذاك وقادها الجيش الايراني تحت إمرة الشهيد علي صياد شيرازي وحرس الثورة الاسلامية تحت إمرة محسن رضائي، دفعت المدينة الى تحرير الهي كما وصف مفجر الثورة الاسلاميّة الامام الخميني الراحل.
وعند الحديث عن خرمشهر وتحريرها يجب التطرّق الى نقاط رئيسية وأساسية في سياق الحرب المفروضة من قبل النظام الصّدامي البعثي على الجمهورية الاسلامية.
بداية العدوان الصّدامي:
شن النظام البعثي الصّدامي آنذاك حربا على الثورة الاسلامية التي لم تكد تنهي أشهرها الأولى وترتّب وضعها الدّاخلي في أيلول من العام 1980، لاستشعار نظامه والقوى المستكبرة التي دعمته في عدوانه بخطر الثورة الاسلامية عليهم، والروح التي نفختها في أرواح الشعوب المستضعفة لرفض الظلم والقهر.
اعتقد صدّام حسين بأنه قادر على هزيمة هذه الثورة والوصول الى العاصمة الايرانية طهران خلال ساعات من بدء شن عدوانه مستفيدا من تجربة الكيان الصهيوني الّذي قضى على القوة الجوية للجيش المصري خلال حرب العام 1967 في الساعات الأولى للحرب.
حماقة صدّام حسن كانت شبيهة بحماقة الديكتاتور الألماني أدولف هتلر الّذي اعتقد أنه بوسعه الهجوم على روسيا ذات الجيش الضعيف وذلك من خلال تفوق آلته العسكرية. لكن أقصى ما استطاع فعله صدّام حسين عبر آلته العسكرية الضخمة هو احتلال عدّة مناطق حدودية كانت خرمشهر واحدة منها وقد دخلها في تشرين الأول من العام 1980.
بداية المقاومة الايرانيّة:
الثورة الاسلامية التي كانت في ذلك الوقت في أشهرها الأولى ومن دون أيّ تنظيم عسكري حقيقي، حرّكت مشاعر الشّباب المؤمن في المناطق الحدودية وانخرطوا في صفوف المقاومة الغير منظمة من اجل مواجهة التقدّم البعثي ووقفه، وعلى الرّغم من الدّعم العالمي للنظام العراقي وبساطة المقاومة الايرانية في بداياتها، فقد استطاعت صد الهجوم العراقي في أوائل العام 1981، وبدأت التخطيط لهجمات مضادة لتحرير التراب الايراني من الدنس البعثيّ على طول آلاف الكيلومترات الحدوديّة.
عمليّات بيت المقدس وتحرير خرمشهر:
تعتبر عمليات بيت المقدس من أصعب وأخطر العمليات الهجومية العامودية على صعيد العالم على الاطلاق حيث قامت القوات الايرانية بعملية فصل للقوات العراقية المحتلة للوصول الى مدينة خرمشهر الاستراتيجيّة، بما يؤمن لها لاحقا السيطرة على المياه الاقليمية حول مدينة خرمشهر.
نفّذت القوّات الايرانية عمليّة هجومية سمّيت بعمليات بيت المقدس يمكن تقسيمها الى ثلاثة مراحل.
المرحلة الأولى: اجتازت القوات الايرانيّة المهاجمة نهر الكارون ابتداءا من أواخر نيسان من العام 1982، في حين لم تكن تتوقّع القوات العراقيّة الهجوم الايراني من هذه الناحية كونها تعتبر حاجزا طبيعيّا، وشكّلت الهجمات المضادة التي نفّذها الجيش الصّدامي استنزافا له لعدم علمه بأن القوات الايرانيّة التي استطاعت من تثبيت مواقعها غرب نهر الكارون تهدف الى الوصول الى مدينة خرمشهر.
المرحلة الثانية: تقدّمت القوات الايرانيّة غرب نهر الكارون على طريق الأهواز – خرمشهر أوائل شهر أيّار من العام 1982 على الرغم من المقاومة العنيفة للبعثيين وهجماتهم المضادة.
وفيما وصلت القوات الايرانيّة في العشرين من شهر أيّار الى مشارف مدينة خرمشهر كانت القوات العراقية تحشد قواتها على محور شلمجه – خرمشهر. الهجوم المضاد والقوي البعثي كان سيؤدي الى تدمير القوات الإيرانيّة في حال نجاحه، لكنّ فشله أدى الى هزيمة مدوية للجيش العراقي جعلته يترك عتاد عسكري ضخم من الآليات والتجهيزات غنمته القوات الايرانيّة، اضافة الى تدميره لمستودعات أسلحة.
المرحلة الثالثة: امتدث من 22 أيّار من العام 1982 إلى الرابع والعشرين من شهر أيار من العام نفسه وتمثلت بدخول القوات الايرانيّة الى المدينة وتحريرها من الدنس البعثي حيث ألقت قوات حرس الثورة الاسلامية القبض على اكثر 19 ألف جندي عراقيّ أسير، وغنمت الكثير من العتاد والأجهزة العسكريّة.
خسائر العدو وتضحيات الجمهورية الاسلامية الايرانية:
قدمت الجمهورية الاسلامية خلال عمليات تحرير مدينة خرمشهر الاستراتيجية حوالي 5500 شهيد على مدى شهر من المعارك كان نصيب حرس الثورة الاسلامية 4500 شهيد والجيش الايراني 1000 شهيد قدّموا على مذبح الوطن لتطهير ترابه من الاحتلال ولصون الكرامة والعزة الوطنيّة.
وقد أنزلت القوات الايرانية خسائر فادحة بقوات العدو تمثلت بقتل أكثر من 10 آلاف جندي إضافة الى جرح عشرات آلف آخرين، وأسر حوالي 19 الف جندي عراقيّ.
لكن النتيجة الحاسمة لهذه المعركة كان أن منّ الله سبحانه وتعالى على من باعوا أنفسهم لله بتحرير أرضهم وعودتها الى حضن الوطن.
النتائج المباشرة لمعركة خرمشهر
شكّلت هذه المعركة نهاية لحلم صدّام حسين بأن باستطاعته تحقيق أي انتصار على الثورة الاسلاميّة، كما كانت منطلقا لتحرير كامل التراب الايراني ودفع قوات العدو حتى داخل الحدود العراقيّة.
انهارت معنويات الجيش العراقي، واتهم صدّام حسين قادة جيشه بالخيانة وأقدم على إعدام عدد من الجنرالات بينهم قائد الفرقة التاسعة في الجيش العراقي.
تعززت الثقة لدى الشعب الايراني، الّذي اندفع الى شوارع المدن في أنحاء البلاد مبتهجا بالنصر، بأنّه يمكن استعادة كل أراضيه المحتلّة ومواجهة أي تهديد خارجيّ.
النتائج غير المباشرة لمعركة خرمشهر
رضخ العالم المتواطئ مع صدام حسين الى حقيقة عدم قدرة هذا الأخير في تحقيق أي هدف وإقرارهم بعجزه عن الحاق الأذى بالثورة الفتية في ايران الاسلاميّة.
شكّلت هذه المعركة انطلاقا للمباحثات السياسية من اجل إنهاء الحرب المفروضة.
اعترف العالم بقدرات القوات المسلحة الايرانية الذّاتية لصد أي هجوم خارجي.
أما إقليميّا فقد كانت هذه المعركة درسا لشعوب المنطقة والتي استلهم منها الشعب اللبناني ومقاومته الشريفة دروسا عديدة للتصدي للاجتياح الاسرائيلي للأراضي اللبنانية الّذي انطلق بعد تحرير مدينة خرمشهر بيومين، وانتهي بتحرير اراضيه بالذكرى السنوية ال 18 لتحرير هذه المدينة في شهر أيّار من العام 2000.