( هذا المقال عبارة عن أحد الدروس التي كان يلقيها الامام الخميني قدس سره الشريف على طلبة العلوم الدينية ، وفضلاً عن قيمة أثرها في تغذية الروح المؤمنة فإنها تكشف عن ذلك المدى العرفاني العميق للسيد طيّب الله ثراه والذي يتغلغل في خفايا النفس الإنسانية كونها منطلق للتغيير الاجتماعي ) ..
طبقاً لما ورد في الخطبة المنسوبة إلى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) ـ فإن جميع عباد الله سبحانه وتعالى مدعوون لضيافة الله سبحانه ـ : يا أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله وقد دعيتم فيه إلى ضيافة الله تبارك وتعالى ...
فما عليكم في هذه الأيام التي تفصلنا عن شهر الله إلا أن تفكروا وأن تصلحوا أنفسكم وتتوجهوا إلى خالقكم ، استغفروا الله من زلاتكم ، وإذا كنتم ولا سمح الله قد ارتكبتم ذنباً فتوبوا إليه ..
إياكم أن تصدر منكم غيبة أو تهمة أو نميمة أو أي ذنب في هذا الشهر لأنكم بذلك تسيئون إلى آداب هذا الشهر وضيافة الله ، وقد تدنّسون أنفسكم بالمعاصي وأنتم ضيوف الله سبحانه وتعالى ..
لقد دُعيتم إلى الضيافة فهيّئوا أنفسكم لهذه الضيافة العظيمة ، تحلُّوا بالآداب الصورية والظاهرية على الأقل ، ليس معنى الصوم الإمساك عن الطعام والشراب ، إن الواجب أيضا هو الاجتناب عن المعاصي وهذا من الآداب الأولية للصوم التي تقال للمبتدئين في تهذيب نفوسهم ، أما رجال الله الذين يريدون أن يبلغوا معدن العظمة فإن لهم آداباً غير هذه .
فالتزموا على الأقل بهذه الآداب الأولية وكما تمسكون عن الطعام والشراب فلتمسكوا عن المعاصي ، واحفظوا ألسنتكم عن الغيبة والنميمة والأقوال السيئة ، أخرجوا من قلوبكم الحسد وكل الصفات القبيحة الأخرى ، وصلّوا إذا استطعتم بانقطاع إلى الله ، وخلّصوا أعمالكم من الرياء ، واضربوا بعرض الجدار كل توجهاتكم نحو شياطين الإنس والجن ، ولكننا على ما يبدو لسنا أهلا ً للوصول إلى هذا المستوى الإيماني الراقي والحصول على هذه السعادة الكبرى ، فحاولوا على الأقل أن لا يكون صومكم مقترناً باقتراف الذنوب وإلا فإن صومكم وإن كان صحيحا ً ليس " مقبولا ً " ولا يُرفع إلى الله لأن ارتفاع الأعمال إلى الله وقبولها لديه تبارك وتعالى تختلف كثيراً عن صحّتها الشرعية ..
إذا انقضى الشهر الشريف ولم تجدوا أي تغيير في سلوككم عمَّا قبل شهر الصوم فاعلموا أنكم لم تقوموا بالصوم المطلوب منكم بل هذا الصوم يكون كصوم الحيوانات ..
أنتم في هذا الشهر الشريف مدعوون لضيافة الله تعالى فإذا لم تزدد معرفتكم بالله فاعلموا أنكم لم تلبوا الدعوة كما ينبغي ولم تقوموا بمستلزمات الضيافة ومقتضياتها ..
في شهر رمضان ينبغي أن تعلموا أن أبواب رحمة الله لعباده مفتوحة وأن الشياطين والمردة مغلولة فإن لم تستطيعوا في هذا الشهر إصلاح أنفسكم وتهذيبها ومراقبتها وإذا لم تتمكنوا من قطع علاقاتكم المادية بالدنيا وإذا لم تتمكنوا من سحق كل الأهواء النفسية البغيضة فإن من الصعب جداً أن تقدروا على ذلك بعد انتهاء شهر الصيام .
إذاً فاغتنموا الفرصة وأحسنوا الاستفادة من هذه الأجواء الإيمانية الرحيمة والعظيمة ، هيئوا أنفسكم لذلك وحاذروا أن يعبئكم الشيطان ويشحنكم قبل حلول شهر رمضان فإذا بكم في هذا الشهر مع أن الشياطين مغلولة تقومون بأقبح الأفعال وأشنعها وبشكل تلقائي دونما دفع منها أو تحريك .
إن الإنسان ليصل بنتيجة كثرة الذنوب والمعاصي إلى مرحلة لا يعود منها بحاجة إلى وسوسة الشيطان بل هو لشدة ما تسيطر الظلمة والجهل على قلبه تصبح صبغة الشيطان تصبغ سلوكه وتصبغ تصرفاته لأن صبغة الشيطان مقابل صبغة الله تبارك وتعالى ، ومن يتحرر من هذه يبتلى بتلك .
التجرّد من صبغة الله يتم باتّباع هوى النفس .. عليكم أن تقرّروا مراقبة أنفسكم في هذا الشهر على الأقل ، وعليكم أن تجتنبوا الأقوال والأفعال التي لا تُرضي الله تبارك وتعالى .
عاهدوا الله سبحانه واحكموا له بالعهد على أن لا تغتابوا ولا تتّهموا ولا تجرحوا شعور أحدٍ بكلامكم في هذا الشهر .. سيطروا على ألسنتكم وعيوبكم وأيديكم وتحكموا بها ، راقبوا أعمالكم وأقوالكم .. فلعل هذا القرار وهذا التصميم يكون سبباً لاستحقاقكم عناية الله سبحانه ورحمته ولطفه وتكون النتيجة بعد انقضاء شهر رمضان وإطلاق الشياطين من الأغلال أنكم أصبحتم من الصالحين ولا يعود الشيطان يستطيع الإحتياال عليكم والوسوسة لكم .
إنني أقرّر هذه النقطة وأؤكد عليها صمِّموا : أن تراقبوا جوارحكم في هذا الشهر المبارك وكونوا حذرين دائماً وملتفتين إلى أن العمل الذي تريدون أن تعملوه والقول الذي تريدون أن تقولوه والشيء الذي تريدون سماعه ما هو حكمه الشرعي !!.
هذه هي آداب الصوم الأوليّة فتحلّوا بها على الأقل .
إذا رأيتم شخصا يريد أن يغتاب فحولوا بينه وبين ذلك وقولوا له : نحن تعهدّنا على أن نجتنب المحرمات في هذا الشهر ، وإذا لم تستطيعوا منعه من الاغتياب فاتركوا الجلسة .
أن المسلمين ينبغي أن يأمنوا جانبكم ومن لا يأمن المسلمون يده ولسانه وعينه فليس في الحقيقة بمسلم ، وإنما هو مسلم ظاهرا ً ليس إلا ، كمن يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ولا يلتزم بمدلولها ، قال الصادق (عليه السلام) : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألا أنبئكم لِمَ سُمِّيَ المؤمن مؤمنا ، لإيمان الناس على أنفسهم وأموالهم ، ألا أنبئكم من المسلم : المسلم من سلم الناس من يده ولسانه .. فإذا أردتم إهانة أحد المسلمين لا سمح الله وغيبته وجرح كرامته فاعلموا أنكم في رحاب الله سبحانه وتعالى وعلى مائدته ، واعلموا أنكم ضيوفه تعالى وأنكم بمحضره تسيئون الأدب مع عباده.
إن الناس هم عباد الله خصوصاً إذا كانوا على صراط الإيمان والعلم والتقوى ، لا تستصغروا هذه الذنوب البسيطة فإن عاقبتها خطيرة ، لأن الإنسان الذي يمارس الذنوب تكون عاقبته عند الموت أن يكذّب الله ويُنكر آياته ، قال تعالى : ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون .
هذه النتيجة السيئة المدمرة لا تحصل دفعة واحدة بل بالتدرج .
نظرة محرقة من هنا ، وكلمة غيبة من هناك ، وإهانة لإنسان مسلم من هنالك ، هذه المعاصي كلها تنغرس في قلب الإنسان فتنمو وتسيطر عليه وتحوّله إلى قلب أسود مظلم وتحول بينه وبين طاعة الله إلى أن تكون النتيجة أن يُنكر الحقائق الإيمانية ويكذّب بآيات الله تعالى . لقد ورد في بعض الروايات أن أعمالنا تعرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعندما ينظر
صلى الله عليه وآله إلى أعمالكم ويراها مليئة بالأخطاء والذنوب كم سيتألم ؟ .. فحاذروا أن تسيئوا إليه .
إنه صلوات الله عليه عندما يرى صفحات أعمالكم مملوءة بالغيبة والتهمة والإساءة إلى المسلمين ويرى كل توجهاتكم وهمومكم هي الدنيا والماديات ويرى قلوبكم طافحة بالبغضاء والحسد والحقد والظنون السيئة فإنه (صلى الله عليه وآله) سيخجل من الله سبحانه ومن ملائكته فيعلم أن أمته لا تشكر الله تعالى ..
إن الشخص الذي له ارتباط بك حتى إذا كان خادمك فإنه يخجل أن يقوم بعمل مشين ، فأنتم على علاقة مع بالرسول (صلى الله عليه وآله) ، أنتم بمجرد دخولكم الحوزات العلمية قد ربطتم أنفسكم بفقه الإسلام والقرآن الكريم والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولذا فإنكم إذا ارتكبتم عملا قبيحا فإن ذلك يمسه (صلى الله عليه وآله) وهو يدفع الثمن لعله ـ لا سمح الله ـ يلعنكم فاجهدوا أن لا تسخطوا الرسول الأعظم والأئمة الأطهار عليكم .
إن قلب الإنسان كالمرآة خافٍ ومضيء ولكنه يتكدر ويتغشى نتيجة التكالب على الدنيا وكثرة المعاصي ، فإذا استطاع الإنسان أن يؤدي الصوم على الأقل بنية خالصة من الرياء لا أقول جميع العبادات مع أنه يشترط فيها الإخلاص وإذا تمكن أن يبقى طيلة هذا الشهر المبارك معرِضا عن الشهوات مجتنبا اللذائذ منعطفا عمَّا سِوى الله وقام بعبادة الصوم كما ينبغي فإن من الممكن أن تشمله عبادة الله وتزول عن مرآة قلبه ما علق بها من الغبش وما اعتراها من الكدر وما خيّم عليها من ظلام الذنوب ، ولعل هذا يكون سببا في أن يُعرض الإنسان كليا عن الدنيا المحرمة ولذائذها ، ومع حلول ليلة القدر يكون قد أصبح أهلا لأن تشرق عليه أنوارها التي لا ينالها إلا الأولياء والخلّص من المؤمنين .
إن جزاء الصوم الحقيقي الذي قال عنه تعالى : { الصوم لي وأنا أجزي به } ، هو هذا ولا شيء غيره ، حتى أن جنات تجري من تحتها الأنهار ليست جزاء متكافئا مع الصوم الخالص لوجهه الكريم ، أما إذا أراد الإنسان أن يكون صيامه إطباقا للفم عن الطعام وفتحاً له على الغيبة وعقداً للمجالس الدافئة في ليالي شهر رمضان المبارك وتمضية الوقت فيها في توجيه التّهم وتوزيعها على الآخرين وإهانة المسلمين ، ويظل هذا شأنه في كل ليلة فإنه لن يجني من صومه شيئا ، إنه قد أساء آداب الضيافة وأضاع حق وليّ نعمته (عزّ اسمه) الذي هيأ للإنسان من قبل أن يخلقه كل وسائل الحياة والاستقرار ، وهيّأ له أسباب التكامل إذ أرسل الأنبياء لهدايته وأنزل الكتب السماوية بهدف إيصال الإنسان إلى معدن العظمة والنور الأبهج وأعطاه القدرة والعقل والآداب وكرّمه بصنوف الكرامات . هل صحيح أن نقابل الله العظيم الذي أنعم علينا كل هذه النعم ودعانا إلى ضيافته في هذا الشهر المبارك بمثل هذه الأعمال ، لقد هيأ لنا الأسباب فهل صحيح أن نستعملها في معصيته مع أننا في ضيافته ، أليس كفراناً للنعمة أن نجلس على مائدته سبحانه ثم نتجرّأ عليه بالأعمال القبيحة والتصرفات الشائنة .
إن الضيف يجب أن يكون على الأقل عارفاً بمقام الضيوف ومؤدبا بآداب الضيافة ، وينبغي أن يكون حريصاً على أن لا يصدر منه ما ينافي الأخلاق واللياقات ، وضيف الله ينبغي أن يكون عارفا بمقام الله العظيم ذي العزة والجلال . هذا المقام الذي كان الأنبياء يسعون للاستفادة من معرفته والإحاطة به إحاطة كاملة ، وكانوا يسعون أن يصلوا إلى معدن العظمة { وأنِرْ أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخترق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة } .
إن ضيافة الله مدخل إلى معدن العظمة ولقد دعا الله عباده واستضافهم ليمكّنهم من بلوغ هذا المستوى العظيم والاشتراك في هذه الدعوة .
وحضور هذه الضيافة يتوقف على أن يكون العبد مستحقاً لها ولائقاً بها ، لقد دعا الله سبحانه عباده لكثير من الخيرات وكثير من اللذائذ الروحية والمعنوية ولكن إذا لم يكن العباد أهلاً لذلك فكيف يمكنهم الحضور إلى ساحة الحق ، كيف يمكن الحضور في حضرة الله تبارك وتعالى ـ الذي هو معدن العظمة ـ والاشتراك في ضيافته مع كل هذه العزارات الروحية والرذائل الأخلاقية والمعاصي الظاهرة والباطنة ، إن الأمر ليحتاج إلى استحقاق وتهيؤ واستعداد ولا يمكن إدراك هذه المعاصي حين تكون الذنوب تسوّد الوجوه وحين تكون القلوب ملوثة بالمعاصي وملطخة بالآثام وقد حالت بينها وبين الحق العادل حُجب الظلام ..
والحمد لله أولاً وآخراً ....