ربما يقول قائل، ان تحديات وضغوطات وتهديدات ومؤامرات وعقوبات كالتي تعرضت لها الجمهورية الاسلامية الايرانية على امتداد خمسة واربعين عاما، ربما كانت كافية لتطيح بدولة كاملة، بنظامها السياسي، ونسيجها الاجتماعي، وقوتها الاقتصادية.
وربما يقول قائل ايضا، ان الكّم الكبير من الحكومات والانظمة الغربية والاقليمية التي حشدت وعبأت الكثير من امكانياتها وقدراتها ومواردها الاقتصادية والمالية والاعلامية والسياسية والمخابراتية لافشال الثورة الاسلامية واسقاط نظامها السياسي الاسلامي، ربما كانت تلك الامكانيات والقدرات والموارد، كافية لبناء بيئة سياسية سليمة، وصياغة منظومة علاقات بناءة، قائمة على اساس المصالح المتبادلة، ومرتكزة على قيم السلام والوئام والتعايش الصائبة، وفقا للاعراف والمواثيق الدولية والانسانية، بدلا من المعارك والحروب والصراعات الدموية العبثية.
ولاشك ان التغلب على التحديات والتهديدات والضغوطات والعقوبات التي لم تتوقف ولم تنقطع يوما واحدا، يعد وفق كل المقاييس انتصارا لايران، والانتصار لايرتبط بمجرد البقاء وتجنب السقوط والانهيار، وانما يرتبط في جانب كبير منه بالتقدم والنهوض في شتى الجوانب والمجالات، فضلا عن الحضور الايجابي الفاعل والمؤثر في مختلف الساحات والميادين والمحافل الاقليمية والدولية.
كيف تغلبت ايران على كل ذلك؟..
لعل العامل والعنصر الاساس والاهم لذلك النجاح، تمثل بطبيعة وعقلية واخلاص وصدق القيادة، المتمثلة بالامام الراحل اية الله العظمى الامام الخميني ومن كان معه، تلك القيادة التي وضعت اللبنات الاولى للثورة قبل اربعة عشر عاما من انتصارها، وتحديدا من المدرسة الفيضية في مدينة قم المقدسة عام 1963.
فقد اتسمت رؤية الامام الخميني بالشمولية والعمق وسعة الافق، بحيث ان الامام الخميني لم يكن يتعاطى مع الوقائع والاحداث بظواهرها ومظاهرها الانية اللحظية، وانما بأبعادها وتفاصيلها وجزئياتها الدقيقة والبعيدة والعميقة. فضلا عن الحرص والاهتمام والاعتماد على العوامل والاسباب المعنوية والمادية التي من شأنها الحفاظ على ديمومة الثورة واستمراريتها، الى جانب تعبيرها عن هموم وتطلعات وطموحات الناس، وعدم حصرها وتحديدها في اطر جغرافية او قومية او مذهبية او دينية او مناطقية معينة.
هذا جانب، والجانب الاخر، يتمثل في ان الامام الخميني ما كان له ينتصر ويوصل الثورة الى مبتغاها لولا وجود مجتمع مؤمن بقضيته، وواع ومدرك تمام الادراك لعدالة وحقانية تلك القضية، واعتبارها الطريق الانجع والاسلم لتحقيق الاصلاح المجتمعي الشامل، دون الاقتصار على اسقاط النظام السياسي الحاكم واستبداله بنظام سياسي اخر فحسب، كما هو معروف ومألوف في العديد من الدول بمختلف العهود والازمان.
ومما لاخلاف عليه هو ان التضحيات الكبرى للشعب الايراني، كان لها الاثر الكبير في انتصار الثورة، ومن ثم الحفاظ على مسيرتها الصائبة، وترسيخ جذورها، وتوسيع مدياتها وافاقها. فما تحقق من انتصارات ومكاسب وانجازات، كان في واقع الامر نتائج دماء غالية وارواح عزيزة لمختلف فئات المجتمع، ابتداءا من كبار علماء الدين ورجال الدولة، مرورا بالنخب السياسية والعلمية والثقافية والاعلامية والعسكرية، وصولا الى المقاتلين في جبهات القتال. اذ ان مسيرة التضحيات لم تنتهي وتتوقف بنهاية الحرب المفروضة (1980-1988)، بل انها استمرت وتواصلت حتى الان، وستبقى متواصلة.
والامر الاخر، او العامل الاخر، هو ان الثورة نجحت في التأسيس لدولة عادلة وقوية وفاعلة ومؤثرة، وضع اسسها مفجر الثورة وقائدها، ومن ثم رسخها وعززها ومنحها المزيد من القوة، رجالها الاوائل، لتتواصل عملية البناء والنهوض ولتتحول التهديدات والتحديات الى فرص وانجازات بعد رحيل الامام الخميني وتصدي اية الله السيد علي الخامنئي لزمام القيادة.
بعبارة اخرى يمكن القول، ان الثورة الاسلامية الايرانية، استطاعت مواجهة وتجاوز تحديات كبيرة وخطيرة طيلة الخمسة واربعين عاما المنصرمة، ونجحت في البقاء والصمود. وتمكنت من بناء نظام سياسي متميز يختلف في الكثير من خصوصياته وميزاته عن الانظمة السياسية القائمة في المحيط الاقليمي وفي عموم المجتمع الدولي. وانها زاوجت وبقدر كبير من النجاح بين اليات ومناهج وسياقات المفاهيم السياسية المعاصرة كالديمقراطية والتعددية وتداول السلطة وحرية التعبير والعمل السياسي، وبين قيم ومباديء الدين الاسلامي التي شكلت هويتها الاساسية، وكذلك فانها استطاعت التوفيق بين الثوابت الوطنية والدينية ومصداقية الشعارات التي رفعتها من جهة، وبين المصالح السياسية والاقتصادية التي ينبغي الاهتمام بها وعدم اهمالها في ظل واقع اقليمي ودولي لايحتمل انعزال وانكفاء أيا من مكوناته من جهة اخرى.
وبلا شك فأن ترسيخ مبدأ المشاركة السياسية والممارسة الديمقراطية ضمن الاطار الاسلامية، من خلال الانتخابات، سواء الرئاسية او البرلمانية او البلدية، او انتخابات مجلس الخبراء، حظي بأهتمام كبير، بحيث انه في المعدل العام، تجري في كل عام انتخابات معينة، اضافة الى المساحات والفضاءات الاعلامية الواسعة لطرح ومناقشة مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والشفافية والوضوح في تشخيص مكامن الضعف والخلل والانحراف، وتصدي المؤسسات الحكومية المعنية للتوصل الى الحلول والمعالجات المطلوبة.
وبما ان الثورة لم تنكفأ على نفسها، ولم تتحدد بأطر جغرافية معينة، وتنشغل بهموم ومشاكل المجتمع الايراني فقط، لذا فأن قضايا الشعوب والمجتمعات المضطهدة والمظلومة-او بعبارة اخرى المستضعفة-شغلت حيزا كبيرا من اهتمام قيادات الثورة والدولة في ايران، فقد كانت فلسطين ومازالت حاضرة دوما وهي تقارع الاحتلال الصهيوني البغيض، ونفس الشيء بالنسبة للعراق وسوريا حينما تعرضا للارهاب التكفيري الداعشي، واليمن حينما واجهت العدوان الاميركي-الغربي، وغيرها من الدول والشعوب والمجتمعات. وظهور وتوسع وترسخ جبهة المقاومة بمحورية الجمهورية الاسلامية الايرانية دليل شاخص على ذلك.
واذا كانت نجاحات الثورة الاسلامية الايرانية بحجم وسعة التحديات والتهديدات التي تعرضت، فذلك يعني انها انتصرت في كل المواجهات، وتفوقت في كل المجالات، وتقدمت في كل المسارات.
--------------------
عادل الجبوري ، كاتب و صحافي عراقي . رأي اليوم . القسم العربي ، الشؤون الدولية.