من انتصار الثورة الاسلامية حتى الرحيل

من انتصار الثورة الاسلامية حتى الرحيل

ان اهم ما حققته عملية احتلال وكر التجسس الأميركي تمثل في طعن الغرور الفرعوني الأميركي.

أدّى نجاح الانتخابات ومشاركة الجماهير الواسعة فيها الى تبديد الآمال الأميركية الواهية في قرب سقوط النظام الاسلامي، الذي كانت وسائل الاعلام الغربية لا تكف عن ترديده، فضلاً عن البيانات التي كانت تصدرها التيارات المعادية للثورة في الداخل. ولم تمتنع أميركا واوروبا من النزول عند مطالب الشعب والحكومة الايرانية المشروعة باسترداد الاموال والارصدة الايرانية المجمدة التي تقدر باكثر من 22 مليارد دولار فحسب، بل وضعت امكانات واسعة تحت تصرف اقطاب النظام الملكي البائد اللاجئين اليها، لتوظيفها في مواجهة النظام الاسلامي الفتي. وقد اثارت هذه النشاطات الأميركية والممارسات العدائية للبيت الابيض غضب الشعب.
ففي عام 1979 وعلى اعتاب الذكرى السنوية لنفي الإمام الخميني الى تركيا (4 تشرين الاول) شاع خبر اللقاء السري بين بازركان وبريجنسكي (مستشار الامن القومي الأميركي آنذاك) الذي جرى في الجزائر، مما دفع مجموعة من الجامعيين المسلمين الثوريين ـ الذين اطلقوا على انفسهم اسم (الطلبة الجامعيون السائرون على نهج الإمام الخميني) الي حتلال السفارة الأميركية بطهران. وبعد القضاء على مقاومة حرس السفارة، قاموا بالقاء القبض على الجواسيس الأميركان. ثم عكفوا بعدها على نشر الوثائق التي عثروا عليها في السفارة الأميركية في خمسين كتاباً سميت وثائق وكر التجسس الأميركي في ايران. وقد كشفت هذه الوثائق الدامغة النقاب عن اسرار الجاسوسية الأميركية والتدخلات التي قامت بها الادارة الأميركية في مختلف نقاط العالم، واعلنت اسماء العديد من الرابطين والجواسيس لأميركا ومختلف اساليب الجاسوسية والتحركات السياسية الاميركية في مناطق العالم المختلفة.
مثّل احتلال السفارة الأميركية، التي عرفت في ثقافة الثورة الاسلامية بـ وكر التجسس، فضيحة كبرى للحكومة الأميركية.
بعد يوم واحد من احتلال السفارة الأميركية سقطت حكومة السيد بازركان بعد قبول الإمام استقالتها، في وقت كان بازركان يتوقع ردّ فعل آخر من الإمام يتمثل في ضغطه على الطلبة الجامعيين لاخلاء السفارة الأميركية، غير أن الإمام الخميني قبل استقالة الحكومة علي الفور غير مفرطٍ بهذه الفرسة السانحة التي ستتيح له دفع الثوريين الى سدة السلطة وكف ايدي التيار المحافظ الذي عرض البلاد خلال فترة حكومته الوجيزة الى خطر اعداء الثورة بسبب مواقفه الضعيفة في التعامل مع الاحداث.
دافع الامام الخميني عن حركة الطلبة الجامعيين الثورية،
وعدَّ عملهم ثورة تفوق في اهميتها الثورة الاولى. والحق انها كذلك. فقد كانت أميركا تقف الى جانب النظام المقبور في الثورة الاولى وكانت تعلن رسمياً عن مواجهتها وعدائها للثورة الإسلاميّة، في حين أن الوثائق المصادرة من وكر التجسس الأميركي كشفت النقاب عن الدسائس التي حيكت ضد الثورة في الخفاء وفضحت عملاءها في الداخل. بعد احتلال السفارة الأميركية حاولت أميركا بمختلف السبل دفع إيران للتراجع عن موقفها، فقامت، ومن يدور في فلكها، بفرض الحصار الاقتصادي والسياسي رسمياً على إيران، وابتدأت الجماهير مرحلة مواجهة الحصار الاقتصادي والسياسي مستلهمة بيانات وتوجيهات الإمام الخميني، دون ان تفكر في الاستسلام. وفشلت عملية اطلاق سراح الرهائن الأميركان بعد تحطم الطائرات الأميركية في صحراء طبس، في حادثة اعجازية مدهشة. في الرابع والعشرين من نيسان 1980 م قامت ست طائرات سمتية من طراز 130 Cبالهبوط في احدى القواعد الأميركية السابقة في صحراء طبس شرقي إيران، وقد وقعت هذه الحادثة خلال رئاسة ابوالحسن بني صدر. وكان مقرراً ان تقوم الطائرات ـ بعد التزود وبالوقود والتحاق ثماني سمتيات ميدانية ـ بالتوجه الي طهران، لقصف منزل الإمام الخميني والمراكز الهامة الاخرى بالتعاون مع بعض العملاء، غير ان عاصفةً طارئة هبت في الصحراء اجبرت بعض الطائرات على العودة الى حاملة الطائرات (نيميتس) واضطرت الباقيات الى الهبوط الاضطراري في الصحراء. ونتيجة لسوء الاحوال الجوية ارتطمت احداها باخرى فانفجرت كلتاهما، وقتُل علي اثر ذلك ثمانية اشخاص من العسكريين الأميركان الغزاة، واضطر جيمي كارتر رئيس الولايات المتحدة الى الاعلان عن ايقاف العمليات الفاشلة.
وبوفاة الملك محمد رضا في مصر في 27 تموز 1980،انتفى بشكل عملي احد الشروط الايرانية المتمثلة في استرداد الملك باعتباره احد المجرمين الاصليين في المذابح الجماعية التي ارتكبت في إيران. واخيراً وبعد 444 يوماً تمَّ الافراج عن الجواسيس الأميركان بوساطة جزائرية بعد اعلان اعضاء مجلس الشورى موافقتهم علي اتفاقية الجزائر الموقعة بين إيران وأميركا، والتي تعهدت أميركا بموجبها بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لايران، وإعادة الارصدة والاموال الايرانية المجمدة في مصارفها. إلا أنها لم تلتزم بايًّ منها.
ان اهم ما حققته عملية احتلال وكر التجسس الأميركي تمثل في طعن الغرور الفرعوني الأميركي، وبعث الامل في نفوس شعوب العالم الثالث بامكانية الوقوف بوجه القوى العظمى، ناهيك عن ضمانة ديمومة الثورة الإسلاميّة في إيران.
بعد تلك الواقعة، انهارت الاّبهة الأميركية والقدرة الوهمية ـ التي أُنفق من اجل اظهارها المبالغ الطائلة والجهود الاعلامية المكثفةـ وتعرضت أميركا الى صعوبات ومشاكل عديدة للسيطرة على العالم الثالث فيما بعد.
في أول انتخابات لرئاسة الجمهورية الإسلاميّة الايرانية _ 25/10/1980)، والتي جرت في وقت كان الإمام الخميني طريح فراش المرض في مستشفى القلب بطهران، فاز السيد ابوالحسن بني صدر على منافسيه. وكان ابوالحسن قد عاد الى إيران قبيل انتصار الثورة الإسلاميّة، وقدم نفسه من خلال خطاباته وكتبه على أنّه شخص متدين وخبير اقتصادي لامع. وفي مراسم اداء اليمين الدستورية لتولي مهام عمله كرئيس للجمهورية قال الإمام: انني أوصي السيد بني صدر بوصية واحدة، وهي موجهة للجميع ايضاً، اقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة غير ان غرور بني صدر ونزعته في التسلط حال دون التزامه بهذه النصيحة، لقد غرّته الآراء التي حصل عليها. ومنذ بداية حكومته اعتمد معارضة اتباع خط الإمام وعلماء الدين، وقد كان يعتقد ـ كما هو حال الحكومة المؤقتة ـ بضرورة مسايرة الدول الكبرى، واعتماد اسلوب المناورات السياسية معها. اما على الصعيد الداخلي فقد بادر علي الفور الى عزل الطاقات الثورية واحلال العناصر المرتبطة بالفئات المعادية للثورة محلها.
وفي عهده احتل العراق مناطق شاسعة من الاراضي الايرانية، وعلى الاثر قامت العناصر المرتبطة برئيس الجمهوريةـ التي كانت ترى وجودها مرتهناً بزيادة المشكلات وايجاد جومن التوتر امام النظام الاسلامي ـبالحيلولة دون اداء المدافعين عن البلاد لدورهم بشكل مناسب، ومنع تسليح الجماهير واتاحة الفرصة للحرس الثوري باداء دوره الفاعل، مستفيدين في كل ذلك من منصب بني صدر الذي كان قائداً عاماً للقوات المسلحة. وبذلك تعرضت الوحدة الوطنية الى الخطر نتيجة الخلافات التي اثارها بني صدر. واخيراً اصدر الإمام الخميني قراره المقتضب في 10 حزيران 1981 م القاضي بعزل بني صدرعن منصب القائد العالم للقوات المسلحة، وتبعاً لذلك صادق مجلس الشورى الاسلامي علي عدم كفاءة بني صدر كرئيس للجمهورية.
بسقوط بني صدر، بادر اعضاء ومؤيدومنظمة مجاهدي خلق (المنافقين) ـ الذين استغلوا ضعف الحكومة المؤقتة وما وفره لهم بني صدر من الدعم والحماية لتقوية تشكيلاتهم وتوسيعها - لممارسة اضطرابات دموية. الا ان جماهير طهران تمكنوا من القضاء على مثيري الاضطرابات وتم اعتقال العديد منهم. ومنذ ذلك الوقت اقدم المنافقون رسمياً على القيام باعمال مسلحة واغتيالات، وفي الوقت نفسه بادر قادة التنظيم للاختفاء في أوكارهم، وقد تصدر حزب الجمهورية الإسلاميّة قائمة المستهدفين من قبل المنافقين.
تم تأسيس حزب الجمهورية الإسلاميّة بعد انتصار الثورة الإسلاميّة بهمة المخلصين من ذوي السماحة آية الله الخامنئي والدكتور بهشتي، والدكتور باهنر، وهاشمي رفسنجاني، والموسوي الاردبيلي بهدف احتواء الطاقات المؤمنة بنهج الإمام الخميني، ومواجهة تحركات التيارات السياسية المعادية للثورة. وقد استطاع هذا الحزب الذي حظي بدعم الإمام المعنوي، ان يكسب اعداداً كبيرة من الاتباع والمؤيدين في مختلف انحاء البلاد وبسرعة كبيرة، ويمسي سداً امام تطلعات العناصر المعادية للثورة.
في السابع والعشرين من حزيران 1918، جرح آية الله الخامنئي اثر انفجار قنبلة زرعها المنافقون بينما كان يخطب بالجماهير المحتشدة في مسجد أبي ذر بطهران. وفي اليوم التالي وقعت فاجعة رهيبة حيث هزّ انفجار قنبلة قوية زرعها احد عملاء منظمة المنافقين، مقر حزب الجمهورية
الإسلاميّة، وذلك خلال اجتماع اعضاء الحزب، مما ادى الى استشهاد اثنين وسبعين من خيرة الطاقات الثورية من عناصر النظام الاسلامي ومن انصار الإمام الخميني، كان بينهم رئيس مجلس القضاء الاعلى الدكتور بهشتي وعدد من الوزراء ونواب مجلس الشورى الاسلامي وجمع من مسؤولي السلطة القضائية وعدد آخر من المفكرين والكتاب والطاقات الثورية الاخرى.
بعد شهرين من هذه الفاجعة، وتحديداً في الثلاثين من شهر آب 1981 استشهد السيد محمد علي رجائي ـ الوجه الثوري المحبوب لدى الجماهير، والذي انتخب لرئاسة الجمهورية بعد عزل بني صدر ـ والدكتور محمد جواد باهنر (رئيس الوزراء) علي أثر انفجار قنبلة اخرى زرعت في المكان الذي كانا يجتمعان فيه.
ان قرار الإمام السريع والحازم بانتخاب وتنصيب المسؤولين لسد الفراغ الحاصل نتيجة سقوط هذا العدد من الشهداء، كان له بالغ الاثر في تهدئة الاوضاع وادخال اليأس في نفوس الاعداء، واصابة المحافل الخبرية والسياسية العالمية بالحيرة والذهول.
لولم يكن ايمان الإمام الخميني وصلابته المذهلة، ووعي الجماهير الايرانية المؤمنة، لتمكنت واحدة من هذه الاحداث من اسقاط النظام الاسلامي. غير أنَّ بيانات الإمام الخميني وخطاباته كانت بعد كل حادث من هذه الحوادث تهدئ روع الجماهير وتسهل عليها تحمل المصائب وتزيد من تصميم الجماهير على مواصلة طريقها. فبعد استشهاد الدكتور بهشتي كانت الجماهير تهتف بشعار ماذا تريد أميركا، ان إيران مليئة بامثال بهشتي، والذي استلهمته من حديث الإمام الذي كشف من خلاله النقاب عن ان الايادي الخفية للعدوالاصلي (أميركا) تكمن وراء هذه الاغتيالات. من جانب آخر، كان الإمام قد أكدّ مراراً ان الثورة الإسلاميّة لا تقوم على الافراد مهما كانت مواقعهم واهميتهم، وان حافظ الثورة هو الله وايمان الجماهير المؤمنة.
ان احد ابرز نجاحات الامام الخميني تجسد في قدرته على تنمية الوعي العالم لدى الجماهير وايجاد الاحساس بالمسؤولية والقدرة على التحليل السياسي لدى ابناء الشعب ازاء الوقائع والاحداث المعاصرة.
لسنوات طوال كانت وسائل الاعلام الغربية تعد بحتمية سقوط النظام الاسلامي بعد وفاة الإمام الخميني، وقد طُرح هذا الموضوع حتى في المؤتمرات التي عقدها المفكرون الغربيون لدراسة الثورة الإسلامية، والملتقيات السياسية والمفاوضات التي كان يجريها الساسة الغربيون وبشكل جدّي، واعتبر موضع قبول الجميع. وعلى هذا الاساس ايضاً قبعت الفئات المعادية للثورة في الداخل في مكامنها بانتظار ذلك اليوم الموعود. غير ان الدنيا شهدت كيف ان النظام الاسلامي لم يتعرض لادنى ارباك بعد ارتحال سماحة الإمام الخميني، وبذا تبددت احلامهم وامانيهم. والسبب في ذلك ما تقدم، إذ تمكن الإمام الخميني من اعادة تربية الجيل الخامل واللامبالي ـ الذي جُرّ خلال الخمسين عاماً من حكم العائلة البهلوية الي التيه والضياع واليأس والقنوط ـ بنحوجعلته قادراً وفي زمن قياسي من نبذ عاداته وعلاقاته الاجتماعية السابقة والاعتقادات الخاطئة الراسخة، واستبدالها بالقيم والمثل السامية الجديدة في مختلف مناحي الحياة. وما اندفاع الآلاف من الشبان الذين واجهوا العدوالبعثي المعتمدي في جبهات القتال لمدة ثمانية اعوام متواصلة متحلين باعلي درجات المعنوية والوعي إلا دليل على هذاالمعنى، وان النماذج الكثيرة على مستوي وعيهم وشعورهم ومستوي ايمانهم ومعنوياتهم تتضح في الوصايا المطبوعة للشهداء، فيما كان أكثرهم ـ الى ما قبل انتصار الثورة الإسلاميّة بقليل ـ تتهددهم انواع المفاسد، ويحركهم إعلام السوء وتتجاذبهم انواع القوى التخديرية.
ولعلَّ البعض ممن يعاصر مجتمع عصر الإمام الخميني عن قرب، يعتبر هذا الحديث نوعاً من المبالغة في عرض الحقائق، ناشئ عن فرط المحبة للامام وللثورة الإسلاميّة.
لكنَّ الأمر ليس كذلك، فكثير من الشواهد لازالت حيّة، والوثائق والمستندات الدامغة من الكثرة بحيث ان اثبات هذا الامر لن يحتاج الى طويل بحث او مناظرة. فالى الآن ما زالت الثقافة الاجتماعية الايرانية الجديدة تدفع الناس الى تهنئة من فقد ابناً علي طريق تحقيق اهداف نهضة الإمام الخميني بدلاً من تعزيته ومواساته. الى الان ما زال الكثير من الآباء والأمهات في إيران ممن فقدوا اعزتهم في هذا الطريق يجيبونك حينما تسألهم عن شعورهم: بأن ذلك فخر للعائلة وانه نعمة من نعم الله.
ولعل من غير المعقول بالنسبة للغربيين ان يقوم بعضُ افرادِ العائلةِ بالابلاغ عن اماكن اختفاء العديد من العناصر المضادة للثورة والارهابيين المنافقين من أبنائهم، ومساعدة الآباء والامهات قوى الا من القاء القبض علي ابنائهم.
وتتضح اهمية هذا الاحساس اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار شدّة الترابط العاطفي في العائلة الايرانية والذي لا يمكن مقارنته ـ على اي مستوى ـ مع ما هو موجود من العلاقة الباردة الخالية، من الروح لدى العائلة الغربية مثلاً.
فحتى الآن اذا سألت أيّاً من المقاتلين ـ الذين لا زالوا يتذكرون أيام الجبهة ـ عن اشدَّ الأيام التي قضاها في الجبهة قسوة ؟ لأجابك انه يوم اعلان قبول قرار مجلس الامن والموافقة علي وقف اطلاق النار. ان مشاعر الألم والحزن التي انتابت قوات التعبئة ذلك اليوم لا يمكن وصفها ولا يمكن تصورها؛ كل ذلك لاحساسهم بأنّ باب جنة الشهداء قد اغلق امامهم، وانهم فقدوا الأمل بالالتحاق بقافلة الشهداء.
ان ايجاد تحول روحي كهذا في مجتمع ما، وتحريك امواج الاندفاع نحوالاسلام في روح امة من الأمم، ليس بالعمل السهل واليسير.
ان لبنان وملحمة حزب الله، نموذج آخر على هذا التحول الذي ذكرناه. وخلافاً لما يدعيه الغرب عبر اعلامه، فإن تدخل إيران ودعمها لم يكن هو السبب في ايجاد هذا التحول، ذلك لأن لامريكا واوروبا والاتحاد السوفيتي (السابق) حضور عميق وواسع ومباشر في لبنان بيد انه لم يؤد الى شيء. فالجامعة الأميركية في بيروت لها تاريخ طويل، كما ان أميركا واوروبا انزلت قواتها في لبنان اثناء الاحداث التي وقعت في لبنان. لقد كانت لبنان وحتى وقت قريب اكبر سوق للسياسات الغربية في الشرق الاوسط، فما الذي ادى الى ان يتمكن مجتمع صغير ـ قياساً الى اعدائه وفي بلد محاصر من جميع الجهات، وله حدود مشتركة مع اسرائيل، ورغم قلّة امكاناته الدفاعية ـ من الوقوف بثبات وقوة بنحويدفع القوات الغربية الى الاعلان رسمياً عن فرارها من المنطقة، واضطرارها الى تركها. واليوم ايضاً ورغم كل الضغوط الاقتصادية القاسية والقصف والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة، ترى حزب الله يثبت وجوده امام الغرب ويقاوم بشكل منقطع النظير.
إنَّ السبب الحقيقي الذي يقف وراء ذلك كله هو ان مسلمي لبنان ـ وبناءً على علاقاتهم الثقافية والعقائدية القديمة ـ استطاعوا التعرف علي الإمام ودرك رسالته اسرع من سائر البلدان الإسلاميّة.
وبعد لبنان، شهدنا في فلسطين آثار هذا الفكر وهذه الرسالة، في انطلاقة (حركة حماس) والحركات الإسلاميّة في سائر بلدان المسلمين.. كل ذلك نتيجة التأثر المباشر أو غير المباشر لافكار الإمام الخميني ورسالته الجهادية. وان تحوّلاً كهذا لا ينحصر في الفكر السياسي للامام الخميني ونوعية جهاده السياسي، فمدرسة الإمام الخميني التربوية وقدرته في معرفة الانسان وفي معرفة المجتمع هي التي ساهمت في ايجاد الارضية المناسبة لوقوع مثل هذه التحولات. وللاسف فإن ابعاد نظرات الإمام وآرائه حول الانسان والمجتمع والتاريخ والتربية لم تزل حتى الآن متناثرة غير مدوّنة وغير معروفة كما ينبغي، فمدرسة الإمام في التربية وعلم الاجتماع تختلف كثيراً عما يُدرس تحت هذه العناوين في جامعات دول العالم الثالث والبلدان الإسلاميّة.
إنَّ الاساس الذي ابتنيت عليه نهضة الإمام الخميني انما يمتد الى منهج الانبياء، ذلك المنهج الذي استطاع ان يخلق
من بعض العبيد المغمورين والمظلومين شخصيات من امثال ابي ذر الغفاري وسلمان المحمدي. وان يجعل من المجتمع الجاهلي قائداً للمدنية والحضارة الإسلاميّة. بيد ان هذا المنهج اصبح منسياً في عصرنا الحاضر، وما نعرفه اليوم تحت عنوان العلوم الانسانية المعاصرة انما يهتم بتعريف الانسان والعلاقات الانسانية من وجهة نظر المدارس الوضعية الليبرالية والانسانية الغربية، التي هي ايضاً وليدة عصر النهضة الصناعية وانعكاس للضياع وفقدان الهوية الذاتية والاصالة والقبول باصالة المادة وحاكمية الآلة على الانسان.
اعود للحديث عن كيفية قيادة الثورة في السنوات المشحونة بالاضطراب التي تلت انتصار الثورة الإسلامية، فبعد فاجعة الثامن والعشرين من حزيران 1981م واستشهاد العشرات من انصار الإمام ومن مسؤولي الجمهورية الإسلاميّة، تمكن قادة منظمة المنافقين من الفرار من البلاد متوجهين الى باريس برفقة رئيس الجمهورية المعزول، وذلك بارتدائهم الملابس النسائية وبالتعاون والتنسيق مع بعض العملاء المندسين في مطار طهران. فالطيار الذي قاد الطائرة كان من الطيارين المعتمدين لدى الشاه المخلوع، وهو نفسه الذي قاد طائرة الشاه حينما فرّ من البلاد قبل سنوات.
وخلافاً لادعاءاتها في احترام حقوق الإنسان ومواجهتها للارهاب، اعطت فرنسا حق اللجوء السياسي لاولئك الذين اعترفوا في بياناتهم التي اصدروها، بضلوعهم ـ بل بمسؤوليتهم ـ عن عمليات الاغتيال والتفجير في الاماكن العامة التي وقعت في إيران.
ومن يومها بات المنافقون الفارون الى مختلف الدول الاوروبية وأميركا، يتمتعون بدعم وحماية تلك الدول. وطوال فترة الحرب العراقية الايرانية، اتخذوا من العراق قاعدة اساسية لهم، بعد ان عقدوا صفقة مع صدام، وكانوا يمارسون دورهم كجواسيس ومرتزقة يضعون كل معلوماتهم وامكاناتهم تحت اختيار الجيش البعثي. وقد تلخصت مهمتهم الاساسية في جمع المعلومات عن جبهات القتال الايرانية بواسطة عملائهم المبثوثين في الداخل، واعطاء المعلومات حول مواضع سقوط الصواريخ العراقية التي استهدفت المناطق السكنية في إيران، والتحقيق مع الاسرى الايرانيين، والمشاركة في العمليات العسكرية العراقية.
وفي عام 1988 م وبعد اعلان نهاية الحرب العراقية الايرانية، قاد المنافقون هجومهم الذي استهدف الدخول الي عمق الاراضي الايرانية، الا انه تم سحقهم في عمليات المرصاد، مخلفين وراءهم اكثر من الف قتيل على ارض المواجهة، وان الضجة المفتعلة التي تشنها في العالم المنظمات المرتبطة باميركا ضد الجمهورية الاسلامية تحت ذريعة انتهاك حقوق الانسان، غالباً ما تغذيها مزاعم هذه المنظمة للحصول علي دعم وتأييد الدول الغربية.
ان المنافقين (مجاهدي خلق)في نظر الشعب الايراني هم من اكثر الجناة اجراماً وانحطاطاً، وان جرائم اشهر مجرمي التاريخ الايراني المعاصر لم تصل الي فظاعة جرائمهم. ففضلاً عن استشهاد 72 شخصاً من اكثر شخصيات النظام محبوبية لدى الناس في انفجار مقر حزب الجمهورية الإسلاميّة، واستشهاد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، اقدم المنافقون على اغتيال العديد من الشخصيات، كآية الله الصدوقي امام جمعة يزد بتاريخ 2/7/1982، وآية الله اشرفي الاصفهاني امام جمعة كرمانشاه بتاريخ 15/10/1982، وآية الله دستغيب امام جمعة شيراز بتاريخ 11/12/1981، وآية الله المدني امام جمعة تبريز بتاريخ 11/9/1981، وآ ية الله القدوسي واللواء الدستجردي بتاريخ 5/9/1981 وحجة الاسلام هاشمي نجاد بتاريخ 294/9/1981، وعشرات الشخصيات العلمائية ممن كانت تستحوذ على قلوب الناس في كل منطقة من المناطق التي كانت تمارس نشاطها فيها وممن كان لها الحظ الوافر في نهضة الإمام الخميني.
واضافة الي الوجوه السياسية والدينية البارزة ومسؤولي النظام الاسلامي، فإن اعداداً كبيرة من الناس الابرياء سقطوا مخضبين بدمائهم بجرم الدفاع عن ثورتهم وحمايتها، نتيجة لعمليات ارهابية وتفجيرات قام بها المنافقون في الاماكن العامة (وكان آخرها القتل المفجع الذي مارسه المنافقون بحق اثنين من القساوسة المسيحيين، وتفجير قنبلة في يوم العاشر من محرم الحرام جوار مرقد الإمام الرضا عليهالسّلاٰم في مشهد عام 1994).
ومما يجدر ذكره ان أميركا واوروبا والمنظمات الدولية لم تختر السكوت امام كل تلك الجرائم فحسب، وانما كانت تقدم للارهابيين الملجأ والامكانات لمواصلة نشاطاتهم الارهابية. وقد سبق لهم أن اتخذوا موقفاً مشابهاً من جرائم الشاه بما يخالف ادعاءاتهم. ولهذا السبب بالذات لم يكن الإمام الخميني يعتمد آراء ومواقف الدول الاجنبية والمنظمات الدولية اساساً للتقييم أو انطلاقه للمواقف التي يتخذها سواء قبل انتصار الثورة أو بعدها. إذ كان سماحته يعتقد وقد صرح بذلك مراراً عبر خطاباته بأن هيئة الامم المتحدة ومجلس الامن، ومنظمة الدفاع عن حقوق الانسان ليست سوى ادوات بايدي المتسلطين الدوليين، تماماً كادعاء الشيوعيين والاتحاد السوفيتي بحرية الشعوب ومناهضة الامبريالية، الذي لا يتطلعون من ورائه سوى تحقيق اهدافهم. بل واكثر من ذلك لفت الإمام الخميني ـ وبناءً على هذه الحقائق ـ نظر مسؤولي النظام الاسلامي الي عيار جديد لتقييم مستوى ادائهم بقوله: في اليوم الذي تبادر فيه المؤسسات الدولية وأميركا والغرب الى مدحكم والاعتراف طواعية بشرعيتكم، وبثورتكم، عليكم ان تشكوا في سلامة مسيرتكم وحقانيتكم. الحرب المفروضة:ثماني سنوات من الدفاع المقدس:هذا و ان الفشل الذريع الذي مني به المشروع الاميركي الذي استهدف النظام الجمهوري الاسلامي من خلال الحصار الاقتصادي والسياسي، وكذلك فشلها في عملياتها العسكرية لاطلاق سراح الجواسيس الأميركان ـ بالهبوط في صحراء طبس بعد احتلال وكر التجسس الأميركي ـ واحباط مساعيها في فصل كردستان عن الوطن الام، كل ذلك دفع الحكومة الأميركية عام 1980 الي تجربة الهجوم العسكري المباشر. بيد أنَّ الموازنات الدولية بين الشرق والغرب الحاكمة آنذاك حالت دون قيام أميركا بالهجوم المباشر بقواتها. فالرأي العام العالمي قد تأثر نسبياً بافكار الإمام الخميني ونشاطاته السياسية التي اطلع على جزء منها في فرنسا وعبر الحوادث التي تلت انتصار الثورة الإسلاميّة، مما ساهم في كشف النقاب عن مظلومية إيران وحقانية مطالب الشعب الايراني، ثم دفع الرأي العام العالمي للتعاطف معه. كذلك لم تكن ظروف الانظمة المتزلزلة في الخليج الفارسي تسمح باستيعاب ردود الفعل الناجمة عن الهجوم الأميركي المباشر.
لكل ذلك تمَّ اختيار العراق للقيام بدور اشعال هذه الحرب، وهو اختيار محسوب من كافة النواحي. فالعراق بلد يسير في ركاب الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية. ودخوله في حرب مع إيران سيؤدي الى وقوف الاتحاد السوفيتي والشيوعيين الى جانب صدام، وبالنتيجة الى جانب أميركا وأوروبا مما سيمنع ظهور ايّة ردود فعل سلبية. كذلك فإن العراق يعدُّ ثاني بلد في المنطقة من حيث الامكانات التسليحية، وهو بلد نفطي يمكنه الصمود في حربٍ طويلة الأمد اعتماداً على ثرواته وعلى مساعدات دول الرجعية العربية في المنطقة دون الاحتياج الى دعم أميركا أو أوروبا مالياً او عسكرياً، رغم ان التوقعات الاولية لكل من أميركا وصدام كانت تأمل بحرب قصيرة الامد، تقود الى القضاء على الثورة الإسلاميّة الايرانية بسرعة خاطفة.
من جانب آخر، ساعدت النزعة التسلطية لصدام
والنزاعات الحدودية السابقة بين العراق وإيران، الي حد كبير في دفع صدام الى الاعتداء واحتلال قسم من الاراضي الايرانية.
ومع ان العالم امتنع عن قبول الادلة والوثائق التي قدمتها إيران خلال الحرب لاثبات مدعاها في ضلوع أميركا واوربا والاتحاد السوفيتي في اشعال شرارة الحرب، فإن الاسرار التي انكشفت بعد حرب النفط بين أميركا وصدام (حرب احتلال الكويت) والوثائق التي نشرت فيما بعد، اكدت هذه الحقيقة بما لا يدع مجالاً للشك.
على أيّة حال، بدأ الهجوم العسكري العراقي (في 22 أيلول 1980م) على طول الحدود المشتركة البالغة 1280 كم، ومن اقصى نقطة في الشمال الايراني الى ادنى نقطة ـ ميناء خرمشهر ـ في جنوبها. وتزامن الهجوم البري مع هجوم جوي طال مطار طهران ـ الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم ـ ومطارات المدن الايرانية المهمة الاخرى.
وتمكنت الماكنة العسكرية الصداميةـ التي تمَّ اعداها بمساعدة فرنسا وشركات الاسلحة الأميركية والانجليزية والمعدات العسكرية الروسية للقيام بهذا الهجوم ـ من النفوذ بسرعة لعدة كيلومترات داخل المحافظات الحدودية الخمس. وتعرضت المقاومة الشعبية المحدودة الى ضربة قوية من قبل الجيش العراقي نتيجة عنصر المباغتة الذي كان لصالح القوات الغازية، ونظراً لغياب التسليح والخبرة الكافيتين. وبسرعة مدهشة تم تخريب المدن والقرى المحتلة، وتحولت الى انقاض، وشرد مئات الآلاف من بيوتهم وقراهم ومدنهم.
اما الجيش الايراني، ونتيجة لحوادث الثورة فقد كان مصاباً بالارباك والتفكك، وكان يمضي مراحله الاولى في اعادة البناء والتنظيم. فقد غادر الآلاف من الخبراء العسكريين الاجانب ـ والأميركان بالتحديد ـ إيران بعد انتصار الثورة، كما ان العديد من التجهيزات العسكرية المتطورة والطائرات الحديثة والصواريخ ـ التي كان الشعب الايراني قد دفع اثمانها من كدّه ـ تمَّ نقلها في الايام الاخيرة من حكومة النظام الملكي البائد ـ بمساعي الجنرال هايزر التي استمرت علي مدى شهرين ـ الى أميركا.
كذلك فإن الحرس الثوري ـ الحديث العهد والذي تمَّ تشكيله بناءً على بيانٍ اصدره سماحة الإمام ـ لم يكن يمتلك التجهيزات والخبرة الكافية في الايام الاولى من الحرب، مضافاً الى أنَّ صدام حسين كان يعلم بكل هذه التفاصيل بناء علي المعلومات التي زودته بها أميركا وفرنسا وعملاء الطابور الخامس، لذا كان قد اعدّ حتى خرائط العراق الكبير مضيفاً فيها الى اراضي العراق الحالية مناطق شاسعة من محافظة خوزستان ومن المحافظات الغربية الايرانية. لقد كان واثقاً ان النظام الاسلامي عاجز عن مواجهة هذا الجيش الجرار وسيهزم سريعاً، كما ان الاستكبار العالمي كان يدعمه ويقف وراءه.
لقد قوبل خبر اندلاع الحرب العراقية الايرانية ـ رغم اهميته ـ بالصمت المطبق من قبل كافة المنظمات الدولية والقوى الكبرى. ان هذا السكوت المغرض والعداء المتأصل في نفوس الدول الكبرى للجمهورية الإسلاميّة الايرانية، والظروف التي كانت تمر بها البلاد، والقدرة العسكرية البعثية؛ كانت كلها عوامل عقّدت عملية اتخاذ القرار. ووقفت إيران أمام مفترق طريقين، اما الاصرار على المقاومة في حربٍ غير متكافئة يلفها ـ حسب الظاهر ـ الغموض والابهام، او القبول بشروط أميركا واللجوء اليها للضغط على صدام واجباره علي الانسحاب، وكان الخيار الثاني يعني التخلي عن الثورة وعن الاسلام.
غير انَّ هذه الظروف رغم كل تعقيدها، لم تستطع أن تترك تأثيرها علي الإمام الخميني في تشخيص مسؤوليته واتخاذ قراراته المصيرته. لقد كان الإمام يؤمن بقوله تعالى: كَم مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ فِئَةً كَثيِرةَ بِإذنِ اللهِ، واللهُ مَعَ الصَّابِرِين ايماناً شهودياً، كما أنه كان قد طوى ـ وقبل ان يتسنم مقام قيادة الامة بسنوات ـ مراتب الفناء في الله ، ودرّس الاسفار الاربعة ـ التي تمثل هجرة الانسان الكامل ـ لعدة سنوات، ناهيك عن انه قد طوى تلك الاسفار بمنتهى الكمال عملياً. هذا فضلاً عن ان سماحته قد ضمن رسااته العمليّة احكام الجهاد والدفاع كونها احكام الهيّة لا يمكن تخطيها. وان بمقدور اي شخص لوكان محيطاً بابعاد شخصية الإمام الخميني وسيره التكاملي، ان يحدس نوع المسار الذي اتخذه الإمام عند المفترق الذي ذكرناه.
ان أول ردّ فعل صدر عن الإمام، واول بيان اصدره واول حديث ألقاه بعد الحرب واعتداء الجيش العراقي، يثير الدهشة ويستحق التأمل من حيث التعرف علي شخصية الإمام ومنهجه في القيادة؛ وهو امر لا يتسع المجال هنا للخوض في تفاصيله. لقد اصدر الإمام امره علي الفور بالمقاومة، واشار في أول تحليل له عن الهجوم الى تحميل أميركا المسؤولية الكاملة عن اشعال شرارة هذه الحرب، وطمأن الجماهير بصراحة الى انهم منتصرون لا محالة، وان العدومهزوم قطعاً اذا كان نهوضهم لرد العدوان من اجل الله وعدِّه تكليفاً شرعياً، رغم ان كل الظروف كانت تبدوخلاف ذلك.
وفي اليوم التالي من عدوان النظام العراقي على الاراضي الايرانية، وجّه الإمام الخميني بياناً الي الشعب الايراني المسلم اوضح فيه الخطوط العامة لكيفية ادارة الحرب وشؤون البلاد، ولخص ذلك في سبعة بنود قصيره غاية في الايجاز والدقة. ثم اصدر بعد ذلك عدّة بيانات وجهها الى الجيش البعثي والشعب العراقي لاتمام الحجة عليهما. ثم شرع بادارة وتوجيه الحرب لمدة ثمانية اعوام باسلوبٍ قلَّ نظيره.
في الايام الاولي' من الحرب، توجه عشرات الآلاف من ابناء الشعب الى جبهات الحرب متطوعين ـ استجابة لبيان الإمام ـ لمساعدة القوات المسلحة. وتمَّ في المرحلة الاولى ايقاف تقدم العدوبفضل مقاومة المقاتلين المسلمين وتضحياتهم. كان القتال غير متكافئ الي حد كبير. بيد ان الإمام الخميني اتكل كعادته على الله والمؤمنين به، فراح ـ وعبر البيانات والخطابات المتوالية ـ يهيئ الامة لحرب طويلة وعصيبة، إذ ان سماحته كان يعتقد ـ مستنداً في ذلك الى الآيات القرآنية الواضحة ـ بوجوب الدفاع حتى ازالة العدوان ومعاقبة المعتدي.
بعد عدّة ايام من بداية الحرب خاطب الإمام الخميني سفراء الدول الإسلاميّة المقيمين في طهران بالقول: إننا ندافع عن الاسلام، والمدافعون عن الاسلام يضحون بارواحهم واموالهم واعزائهم من اجله ولن يتراجعوا عن ذلك أبداً.
في هذا اللقاء ـ وفي مناسبات اخرى ومن خلال رسائل خطية وبيانات رسمية ـ طالب الإمام الخميني قادة الدول الإسلاميّة ان يعملوا ـ ان كانوا يرون في صدام الملحد رجلاً مسلماًبحكم الآية القرانية التي تنص: وإن طائفَتَانِ مِنَ المُؤمنين اقَتَتَلُوا فأصلِحُوا بينهُما فإن بَغَت إحدَاهُمَا على الاُخرى فَقاتلُوا الَّتي تَبغي حَتَّى تفيءَ الى أمر الله.

نبوءة الإمام الخميني بانهيار الماركسية: قام غور باتشوف ـ آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي المنحل ـ باصلاحات وتغييرات في بنية القطب الشيوعي العالمي. ولم يزل المحللون السياسيون وقادة الغرب ينظرون بعين الشك والترديد الي خطواته تلك دون ان يصدقوا بأنَّ مثل هذه التحولات التي تجري في هذا النظام الالحادي ذي السبعين عاماً، ستمتد الى جذوره العميقة، وان اقصى ما توقعوه هو ان يقوم قادة الكرملين في النهاية باهمال بعض العلاقات المباشرة بين بلدان الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي للتخفيف من المشكلات الاقتصادية الداخلية وتأسيس نظام جديد للشيوعية يقوم على قيادةٍ اكثر محدودية للاتحاد السوفيتي ومسؤولية اكبر للبلدان التي
تدور في فلكها. في حين أنَّ الإمام الخميني وببصيرته التي عجز عن دركها المحللون الماديون، بعث برسالة وقتئد
(1/11/1989) الى غوربا تشوف توقع فيها انهيار الماركسية حيث كتب يقول: من الآن فصاعداً ينبغي ان يُبحث عن الماركسية في متاحف التاريخ السياسي للعالم.
عرض الإمام الخميني في تلك الرسالة اعمق التحليلات عن التحولات الجارية في الاتحاد السوفيتي وعبر عما يجري بـ صوت تهشم عظام الماركسية. والمثيرللدهشة ان الرسالة تضمنت نبوءة اخرى مشوبة بالحذر، مما يشير الي احاطة الإمام الخميني بالظروف السياسية العالمية؛ اذ حذّر سماحته بوضوح من ارتماء الروس في احضان الرياض الخادعة للرأسماليين الغربيين والانخذاع بما تطرحه أميركا.
لقد طالب الإمام الخميني غوربا تشوف بالايمان بالله بدل تعليق الآمال على الماديين الغربيين معتمداً في مطالبته على عرض المسائل الفلسفية والعرفانية العميقة مشيراً الى فشل الشيوعيين في سياستهم في محاربة الاديان. يقول الإمام في رسالته: ان المشكلة الاساسية لبلدكم لا تكمن في مسألة الملكية والاقتصاد والحرية، بل في عدم الاعتقاد الحقيقي بالله، وهي المشكلة نفسها التي يعاني منها الغرب والتي جرته الي الابتذال ووصلت او ستصل به الى طريق مسدود.
الا ان القادة السوفيت ـ للاسف ـ لم يحملوا نصائح الإمام وتحذيراته محل الجد، مما اتاح للشركات الأميركية والاوروبية، ان تجعل من روسيا مضماراً لمطامعها الاقتصادية، وتعرضها لنوع جديد من الاستثمار الذي لا يحمل معه سوى الظلام والانتهاء الى الطريق المسدود، الا إذا افاقت الجماهير الروسية وعادت الى رشدها.
ويذكر ان (شيفار دنادزه) وزير خارجية الاتحاد السوفيتي آنذاك، حينما قدم يحمل ردّ الرئيس السوفيتي الى الإمام الخميني، ذهل عندما رأىهذا العملاق الصلب الذي يوجه التحذيرات بصراحة عجيبة الى قادة ثاني قوة في العالم، يعيش في بيت صغير بسيط في جماران وفي غرفة لا تتجاوز مساحتها 12 متراً مربعاً، مكتفاً بوسائل واثاث في منتهى البساطة ودون وجود اي اثر للمراسم والتشريفات المعمول بها. اذهله ان يرى الإمام جالساً باطمئنان واستقامة كالطود يضع الى جانبه نسخة من القرآن الكريم وسجادة صلاة ومسبحة وعدداً من الصحف ومذياعاً صغيراً. وقد ازداد دهشة حينما التفت الى انه لا يوجد كرسي آخر يجلس عليه المسؤول الكبير الذي يرافقه وان على الاخير ان يجلس على الارض ـ ولولمرة واحدةـ !ولعل وزير الخارجية السوفيتي ظن بأن قدح الشاي مع حبتي السكر ـ الذي قدّمه له الشيخ العجوز الذي كان في خدمة الإمام ـ كان امراً متعمداً واستثنائياً. غير أن الحقيقة غير ذلك، فالامام لم يغيّر اسلوبه في العيش ببساطة خلال جميع أدوار حياته سواء حينما كان وحيداً ومغترباً ومنفياً او خلال عهد زعامته الدينية وقيادتة السياسية وحتى آخر لحظة من عمره. ولم يقبل لنفسه ان يغير من اسلوبه امام المقامات الدنيوية الاعتبارية مهما كبرت وعظمت.


الدفاع عن النبي الاكرم(ص) والقيم الدينية: بعد توقف الحرب العراقية الايرانية، بدأ القادة السياسيون الغربيون نوعاً جديداً من الهجوم على الاسلام الثوري. إذ ادرك هؤلاء الساسة ـ ومن خلال الحرب العراقية الايرانية والمواجهة التي وقعت بينهم وبين حزب الله لبنان، ومن انطلاقة المنظمات الفلسطينية الإسلاميّة، والجهاد الإسلامي للافغان، ومن عملية اغتيال السادات على أيدي المسلمين الثوريين المصريين في 6/10/1981 ـ ادركوا بأنّ الحركة الإسلاميّة تتنامى بشكل مطرد، ولا يمكن القضاء عليها بالسلاح وبالاسلوب العسكري. لذا لجأوا الى فتح جبهة جديدة يكون الصراع فيها على اساس معنوي وثقافي وايديولوجي. ولما كان بث الفرقة بين المسلمين بايحاء مذهبي وطائفي قد فقد بريقه نتيجةً لوعي الإمام الخميني ومسؤولي النظام الاسلامي، توجه هؤلاء لضرب الجذور والاسس المحركة لهذا التيار، والتي تتمثل في المباني الاعتقادية والمقدسات التي ادى عشقها الى توحيد الاهداف والاساليب بين مختلف اتجاهات الحركة الإسلاميّة. فكان تنظيم ونشر الكتاب المبتذل الآيات الشيطانية لمؤلفه (سلمان رشدي) ودعم الدول الغربية له بشكل رسمي، بدايةلفصل جديد من الهجوم الثقافي. ولولم تبد الأمة الإسلاميّة ردة فعل ازاء المساس بشخصية الرسول الاكرم صَلَّي اللهُ عليه وٰاله لتم الاستيلاء على الخندق الاول من خنادقها الدفاعية، ولتمَّ بعد ذلك الهجوم على الاسسس الدينية والمقدسات والاعتقادات بالغيب وسائر القيم المعنوية في المجتمعات الإسلاميّة بمختلف الاساليب. إنّ هوية الفكر الديني والهوية التي توحد الامة الإسلاميّة إنما تتشكل من هذه المقدسات وان التشكيك بها يؤدي الى تضييع الهوية الذاتية للعالم الاسلامي والحركات الإسلاميّة ويجردها من أيّ سلاح في مقابل الهجوم الثقافي والايديولوجي الغربي.
واستناداً الى الحقائق والاسباب التي تقدمت، فجّر الإمام الخميني في 14/2/1989 ثورة اخرى باصداره حكماً مختصراً اعلن فيه ارتداد (سلمان رشدي) وحكم عليه وعلي من ينشر كتابه بالاعدام إذا كان مطلعاً على محتوى الكتاب الداعي للكفر.
هبّ المسلمون للوقوف في وجه الغرب بصفوف
مرصوصة بصرف النظر عن مذاهبهم والسنتهم وبلدانهم. وقد اظهرت الاحدث التي نتجت عن هذه الواقعة، المجتمع
الاسلامي على انه امة واحدة، وان المسلمين ـ رغم
اختلافاتهم الداخلية والجزئية ـ متى ما توفرت لهم القيادة السليمة استطاعوا ان يلعبوا دوراً فاعلاً في حركة احياء القيم الدينية في مستقبل العالم. كذلك بدد اصدار هذا الحكم التصوارت الغربية الواهمة حول تخلي إيران عن اهدافها الإسلاميّة الثورية بمجرد قبولها بالقرار (598).

السنوات الاخيرة من عمر الإمام: نقل المقربون من الإمام الخميني في مذكراتهم خواطر
وذكريات عن حالات سماحته وروحيته في أواخر عمره، تشير الى ان سماحته كان يحس قرب أجله ودنوموعد لقاء المحبوب. وبغض النظر عن حالات الإمام العرفانية في تلك السنوات، فإن هناك سمات وخصوصيات اتسمت بها خطاباته واحاديثه ميزتها عن سابقاتها، نشير فيما يلي الي
نماذج منها.
وقعت في تلك السنوات حوادث عديدة ثقل اثرها على روح الإمام وقلبه، احداها استشهاد عدد كبير من الحجاج الايرانيين المظلومين الي جوار بيت الله وفي موسم الحج لعام 1987.
كان الإمام يعتقد بشدة استناداً الى مئات الآيات القرآنية الصريحة وسنّة النبي الاكرم صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وٰاله وسيرة أئمة الدين ومالا يحصى من الروايات المأثورة عن المعصومين عليهِمالسّلاٰمُ؛ بأنّ السياسة جزء من الدين، وان عملية فصل السياسة عن الدين التي شاعت خلال العقود الاخيرة من هذا القرن، انما روّج لها المستعمرون، وان النتائج المشؤومة لهذا الفصل واضحة في العالم الاسلامي وبين اتباع سائر الاديان الالهيّة.
كان الإمام الخميني يعتقد بأنّ الاسلام دين لهداية البشرية في جميع مراحل وابعاد وادوار الحياة الفردية والاجتماعية. ولما كانت العلاقات الاجتماعية والسياسية جزءاً لا يتجزأ من حياة البشر، فإن الإمام الخميني كان يرى ان الاسلام الذي يهتم بالجوانب العبادية والاخلاقية الفردية فحسب، ويصد المسلمين عن تقرير مصيرهم وعن المسائل الاجتماعية والسياسية، اسلام محرّف، وعلي حد تعبير سماحته اسلام أميركي. كما ان سماحته كان قد انطلق بنهضته على اساس فكرة عدم الانفصال بين الدين والسياسة، وواصلها على هذا الاساس ايضاً.
لقد بادر الإمام الخميني بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، فضلاً عن تشكيل الحكومة الإسلاميّة ـ باسلوب يختلف
تماماً عن الانظمة السياسية المعاصرة، اوضح اركانه واصوله دستور الجمهورية الإسلاميّة ـ الى احياء شعائر الاسلام الاجتماعية واعادة الروح السياسية للاحكام الإسلاميّة. وما احياء واقامة مراسم صلاة الجمعة، ومراسم صلاة الاعياد الإسلاميّة الكبرى في مختلف انحاء البلاد، على انها عقيدة عبادية سياسية وطرح المسائل والمشكلات التي يتعرض لها المجتمع الاسلامي داخل البلاد وخارجها في خطب صلوات الجمعة والاعياد الدينية، وتغيير اسلوب ومحتوى مراسم العزاء والرثاء إلا نماذج بارزة علي ذلك.
ان احد ابرز انجازات الإمام الخميني، احياء الحج الإبراهيمي.
فالى ما قبل انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران كانت مراسم الحج ـ بوحي من رؤية خاصة وتبعية حكام البلدان الإسلاميّة وبالاخص حكام السعوديةـ تقام سنوياً بعيدة عن روحها الواقعية. فقد كان المسلمون يؤدون مناسك الحج وهم غافلون تماماً عن فلسفة تشريع هذا التجمع الديني السنوي الكبير. ومع ان الحج، كما نصت عليه الآية القرآنية جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيتَ الحَرَامَ قِياماً للنَّاس يعتبر من ابرز مظاهر التلاقي واعلان البراءة من المشركين، إلا ان الناظر الى الحج لا يرى اي اثر من طرح لمشكلات العالم الاسلامي والبراءة من المشركين، في وقت تعيش المجتمعات الإسلاميّة احلك الظروف وتتعرض لهجمات المستعمرين واسرائيل من كل ناحية.
وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة، اكَّد الإمام الخميني ـ من خلال بياناته السنوية التي كان يوجهها الي الحجاج في موسم الحج ـ على وجوب اهتمام المسلمين بالامور السياسية للعالم الإسلامي، واعتبار اعلان البراءة من المشركين ركنٌ من أركان الحج، وتوضيح مسؤوليات الحجيج في هذا الخصوص. وبالتدريج اتخذ مؤتمر الحج العظيم شكله الحقيقي وصارت مسيرة البراءة تقام سنوياً بمشاركة عشرات الآلاف من الحجاج الايرانيين والمسلمين الثوريين من البلدان الاخرى، يرددون خلالها شعارات تطالب باعلان البراءة من أميركا والاتحاد السوفيتي واسرائيل باعتبارها مصاديق بارزة للشرك والكفر العالمي، وتدعوا المسلمين الى الاتحاد. وتزامناً مع هذه المراسم كانت تقام المؤتمرات لتبادل الاراء بين المسلمين وتحري الحلول لمشكلاتهم وتأخذ ابعاداً مختلفة. وقد أدى التأثير المذهل لهذه الخطوات الى دفع أميركا الى زيادة ضغطها على حكومة السعودية للحيلولة دون تنامي هذه الظاهرة او اقامتها اساساً.
وفي يوم الجمعة السادس من ذي الحجة عام 1407 هـ، وبينما كان اكثر من مئة وخمسين الف حاج مندفعين في شوارع مكة للمشاركة في مراسم البراءة من المشركين، اقدم رجال أمن الحكومة السعودية ـ السريين والعلنيين ـ على مهاجمة حشود الحجاج هجوماً يدلل علي سبق اصرارهم وترصدهم، فوقع في هذه الحادثة المؤلمة اكثر من اربعمئة شهيد من الحجاج الايرانيين واللبنانيين والفلسطينيين والباكستانيين والعراقيين وغيرهم، وجرح اكثر من خمسة الآف آخرين. كما تم اعتقال العديد من الابرياء. وكان اكثر الشهداء والجرحى من النساء والشيوخ ممن عجزوا عن الفرار السريع من مكان المذبحة.
لقد ضرج هؤلاء بدمائهم بمنتهى المظلومية بتهمة اعلانهم البراءة من المشركين. والاهم من ذلك انتهاك حرمة الحرم الالهي الآمن في يوم الجمعة وفي ايام الحج المباركة وفي شهر الحرام.
ان آثار الغضب والألم كانت تعتصر قلب الإمام الخميني لهذه الجرأة والوقاحة، الا ان مصالح الامة الإسلامية وظروف العالم الإسلامي منعته من القيام بأيّة خطوةٍ عملية، مما حبس الغم في داخله وترك اثره على كلامه وبياناته حتى آخر عمره.
بعد عامٍ من هذه الواقعة، ونتيجة لاسباب استعرضناها فيما تقدم، قبلت الجمهورية الإسلاميّة وحكومة العراق القرار 598 عملياً وانهيا الحرب المفروضة. وان كلاً من الملاحم البطولية التي سطرها جند الاسلام والمقاومة الشعبية الايرانية الرائعة خلال ثمانية اعوام من الدفاع المقدس، التي حالت دون تحقيق الاعداء لايِّ من اهدافهم ـ التي اشعلوا الحرب بسببها ـ وتمكن الشعب الايراني من طرد المعتدين من المدن والمناطق المحتلة عبر صراعٍ غير متكافئ تماماً، وانتهاء الحرب بانتصار جند الاسلام، كلها امور تدعوالى البهجة والفخر، غير أنَّ الظروف والفجائع التي ظهرت قبل انتهاء الحرب ومنها المجزرة الرهيبة التي وقعت في (حلبجة) نتيجة القصف الكيميائي لهذه المدينة من قبل الطائرات العراقية، والقصف الواسع للمناطق السكنية في إيران ودعوة الدول التي تدعي الاسلام، أميركا واوروبا للقدوم الى الخليج الفارسي بناقلاتها الحربية لحماية صدام واسقاط الطائرة الايرانية المدنية في الخليج الفارسي من قبل القوات البحرية الأميركية، كلها احداث مؤلمة تعتصر قلب ايّ مسلم غيور، ناهيك عن رجلٍ طاهرٍ كالامام الخميني الذي أوقف عمره لخير الامة الإسلاميّة وصلاحها، ونهض من اجل استعادة مجدها الضائع.
كان الإمام الخميني يعاني الأمرّين مما كان يراه من وقوف الكثير من الدول الإسلاميّة ـ خلافاً لارادة شعوبهم ـ مع أعداء الاسلام الحاقدين، ودعمهم للمعتدي، خصوصاً وأنّه كان يرى بوضوح العواقب الوخيمة لهذا الدعم، وأنّه حذّر من مغبة مواجهة النظام الاسلامي الايراني وتقوية الحكام البعثيين، مشيراً الى هذا الأمر ـ فضلاً عن انه لن يحلّ مشكلة من مشاكل العالم الاسلامي ـ فإنّه سيؤدي في المستقبل القريب الى اكتواء هؤلاء الحكام انفسهم بالنار الكامنة تحت الرماد. وفيما يلي نشير الي نماذج من تلك النبوءة المدهشة التي وردت في حديث القاه الإمام قبل ثمانية اعوام من الهجوم الصدامي على الكويت ـ 16 أيار 1982ـ وطبع في السنة نفسها في كتاب صحيفة النور (ج16 ص150). يقول سماحة الإمام مخاطباً الدول العربية الداعمة الصدام: على حكومات المنطقة ان تنتبه الى انهم انما يلقون بأنفسهم في التهلكة من أجل أميركا او غيرها من القوى الكبرى. لقد حذرناهم مراراً لئلا يصبحوا اداة بأيدي القوى الكبري، وقد قلنا أكثر من مرة ان صدام اذا تمكن من النجاة من ورطته هذه واستعاد قوته فانه ليس بذلك الرجل الذي يقدر مواقفكم ويحترم مساعداتكم، انه مصاب بجنون العظمة، ومن المحتم انه سيبادر للهجوم عليكم. كذلك حذر الإمام هذه الحكومات في خطابة الذي القاه بتاريخ 2/11/1981 قائلاً: انني انصح جميع حكومات المنطقة بأن يكفوا عن دعم صدام، وان يخشوا ذلك اليوم الذي يحل فيه غضب الله عليهم.
والطريف أنه لم يمر وقت يذكر علي رحيل هذا الرجلالرباني حتى تحقق ما قال، حيث اصبح أولئك ـ الذين اتهموا إيران بانها ذات نزعة عدوانية واعتبروا المعتدي المتجاوز هوالطرف الراغب بالسلام ـ انفسهم فريسة للمتجاوز والمعتدي مع الفارق بين ما فعلوه وبين ما فعلته ايران، اذ بادروا الى الاستنجاد بالدول التي تعدُّ السبب الرئيسي لاشعال فتيل كل هذه الفتن والحروب.
ان عدم اكتراث الدول الإسلاميّة للاعتداءات الاسرائيلية على جنوب لبنان والجرائم التي ارتكبها الصهاينة هناك والمواجهة القاسية للمسلمين المنتفضين في الاراضي الفلسطينية المحتلة، والأسوأ من ذلك كله، حرص الدول العربية علي اقامة ما يسمى بالسلام مع اسرائيل، والكفّ عن السعي لتحرير القدس، كل هذه معاناة ادمت قلب شيخ جماران. لقد اطلق سماحته صيحته ـ منذ شروعه بالنهضة لتحرير الاراضي الإسلاميّة من قبضة الصهاينة ـ بوجه اسرائيل وحاميها الاول (أميركا) وبسبب ذلك بالذات تم نفيه الى خارج بلاده اربعة عشر عاماً. كذلك فإنه خلال الفترة التي اعقبت انتصار الثورة الإسلاميّة لم يأل جهداً ولم يدخر وسعاً في تقديم الدعم المادي والمعنوي لتحقيق ذلك الهدف. واليوم نرى قادة الدول الإسلاميّة وقادة المنظمات
الفلسطينية يهيئون انفسهم للتوقيع على وثيقة الاستسلام في وقت تغيرت فيه الظروف لغير صالح اميركا واسرائيل نتيجة تنامي الصحوة الإسلاميّة بين الشبان الفلسطينيين وفي مختلف انحاء العالم الاسلامي. وهي امور كانت تترك اسوأ الآثار على روحية الإمام. ولا شك انه في السنوات الاخيرة من عمره كان يخصص السهم الاوفر من مناجاته الليلية للشكوى لله من تلك الامور والدعاء من اجل اصلاحها.
اما على الصعيد الداخلي، فقد كانت الظروف التي أدت الى إقالة آية الله المنتظري عن منصبه في تولي امر القيادة بعد الإمام (28/3/1989) من جملة الحوادث المرّة الاخرى.
ان احد اهم اصول دستور الجمهورية الإسلاميّة ـ الذي تم تدوينه واقراره علي اساس رؤية الإمام الخميني ـ هو تشكيل مجلس الخبراء لتعيين القائد وتحديد صلاحيات القيادة في النظام الاسلامي. والخبراء هم مجموعة من الفقهاء والمجتهدين الذين تتوفر فيهم الشروط، يتم انتخابهم من قبل الجماهير بشكل مباشر، وبذا تكون الجماهير مشاركة ومشرفة على اهم امر يرتبط بمصير المجتمع الاسلامي ـ أي القيادة ـ وذلك عن طريق رأي الخبراء.
صوّت اول مجلس للخبراء في جلسته المنعقدة في شهر تموز 1983 م علي انتخاب آية الله المنتظري لمقام نائب القائد، فهو من تلامذة الإمام الخميني البارزين ومن المجتهدين الذين كان لهم حضور فاعل في الدفاع عن انتفاضة الخامس من حزيران وما تلاها من حوادث، ومن هنا كان قد تعرض ـ كما هو حال آية الله الطالقاني وسائر علماء الدين الثوريين ـ للسجن لفترات طويلة في العهد الملكي البائد.
ففي آخر رسالة بعث بها الإمام الخميني الى آية الله المنتظري ـ التي ادّت الى تقديم الاخير استقالته من منصبه ـ صرّح سماحته بأنه كان معارضاً لانتخاب المنتظري قائداً للنظام الاسلامي من بعده، إذ كان يراه يفتقد الي الطاقة اللازمة لتحمل هذه المسؤولية الجسيمة والخطيرة والمعقدة.
وقد صرح الإمام في هذه الرسالة بأن عدم اتخاذة موقفاً معارضاً لمجلس الخبراء انما كان لرغبته في عدم احتراق الحدود التي اقرها القانون لمسؤوليات ووظائف مجلس الخبراء ـ وهذا الامر بحد ذاته بالغ الاهمية في دلالته على اسلوب الإمام الخميني في الادارة ـ فهو يحترم قانون النظام الاسلامي ورأي الجماهير، ويلتزم به الي الحدّ الذي يمنعه من ابداء رأيه ونظرته الشخصية حتى في ادق الظروف واكثرها حساسية رغم ان ابداءه لرأيه لن يؤدي الى وقوع ايّة مشكلة نتيجة المحبوبية والمقبولية التي يحظي بها لدى الجماهير ومسؤولي النظام.
وفي الرسالة نفسها، أكد الإمام الخميني ـ ضمن تعبيره عن محبته للمنتظري ـ على انه يرى ان من الصالح له (المنتظري) ان يكف عن تكرار اشتباهاته السابقة، وان يطهر بيته من الافراد غير الصالحين، ويحول دون تردد المعارضين للنظام الاسلامي عليه، وان يتفرغ لاثراء البحوث الفقهية واتاحة الفرصة للحوزات للاستفادة من ارائه الفقهية.
ومما يذكر ان الإمام الخميني ليس فقط لم يصرح بمعارضته لانتخاب المنتظري من قبل مجلس الخبراء، بل وبادر الي تقوية واصلاح نقاط ضعف المنتظري بكل جهده، واناط به من المسؤوليات والامور المهمة الكثير لإكسابه التجربة الكافية واعداده لتحمل مسؤولية القيادة الخطيرة. غير ان آثار حقيقة (فقدانه الطاقة اللازمة لتحمل مسؤولية هذا المقام الخطير) كانت تظهر ـ وللاسف ـ تدريجياً، الأمر الذي دفع العناصر غير الصالحة التي تسللت الى منزله الى استغلال ذلك ـ وقد اظهرت اعترافاتهم التي ادلوا بها عبر التلفزيون عن سوء نواياهم واهدافهم المشؤومة التي كانوا يخططون لتنفيذها ـ حتى بلغ الامر حداً تجاوز عدم الالتزام بالنصائح المشفقة والحكيمة التي قدمها الإمام الخميني، والاصرار على الاسلوب الخاطئ.
لقد نصحه الإمام الخميني مرات عديدة ـ عبر الرسائل تارة، واللقاءات المباشرة تارة اخرى ـ بضرورة تطهير منزله من تلك العناصر، والتعاون مع مسؤولي النظام المخلصين.
ولكي ندرك المحطات الحساسة في هذه الواقعة التاريخية ومرارة الأثر الذي تركته على قلب الإمام، ولوعي مدى التزام الإمام بمصالح الامة وعدم الاخذ بنظر الاعتبار العلاقات العاطفية والشخصية في مقابل الاهداف المهمة، نكتفي بنقل هذا المقطع من رسالة الإمام التي بعث بها الى ممثلي مجلس الشورى واعضاء الحكومة بتاريخ 10 نيسان 1989م، وهو غني عن اي تفسير او تعليق، يقول سماحته: بلغني انكم لا تعلمون شيئاً حول قضية السيد منتظري، وانكم تجهلون تفاصيلها. ولكن ينبغي أن تعلموان والدكم الشيخ بذل كل ما في وسعه منذ اكثر من عامين عبر البيانات والرسائل لتفادي وصول الأمر الى ما وصل اليه، غير انه ـ وللاسف ـ لم يوفق في ذلك. من جانب آخر فإن المسؤولية الشرعية اقتضت اتخاذ القرار المناسب لحفظ النظام والاسلام. لذا فقد اقلت ـ بقلب يعتصره الالم ـ وضحيت بثمرة عمري (المنتظري) من اجل مصلحة النظام والاسلام.
وبهذا النحوتم التخلص من احدى المخاوف التي كانت تهدد مستقبل النظام الاسلامي، بتدخل مباشر من يد الإمام الخميني الكفوءة المقتدرة. ولم يكن لهذا الامر المعقد ان يحل الا بواسطة شخصية كشخصية الإمام الخميني.
والإمام الخميني لم يوجه حديثه الى الاخرين فقط حينما يقول: ان الثورة ليست مدينة لاية فئةو لقد اعلنت مراراً بأني لم اوقع عقد اخوّة مع اي احد مهما كان منصبه وان الاطار لمحبتي للآخرين انما يتحدد من خلال صحة الطريق الذي ينتهجونه، بل انه يشمل بذلك حتى نفسه، ففي بيانه المعروف الذي وجهه للحوزات العلمية كتب يقول: يعلم الله بأني لا
اعتقد لنفسي بذرّة من المصونيّة والحق والامتياز، واني مستعد للمؤاخذة اذا بدر مني أيّ خلاف.
وكما اشرنا سابقاً، إن بيانات وخطابات الإمام الخميني خلال السنوات الاخيرة من عمره تختلف عما كانت عليه في السابق، الأمر الذي يعبر عن سعة افقه وعمق احساسه بالمسؤولية بالنسبة للفترة التي ستلي غيابه. فخلافاً لبياناته واحاديثه في المراحل السابقة ـ التي كانت تركز اساساً على توجيه الجماهير والمسؤولين فيما يتعلق بالاحداث الجارية والمواقف المطلوبة امام المحن التي تتعرض لها البلاد والعالم الاسلامي ـ فإن بياناته في السنوات الاخيرة من عمره المبارك كانت تتلخص في استحضار الحوادث الماضية والحالية، وترسيم ابعاد المستقبل، وبيان تكاليف عموم المسلمين في قبال المسؤوليات المستقبلية وبنحواشد وضوحاً من السابق.
بتعبير آخر، كان الإمام الخميني يشعر بقرب اجله، لذا سعى في السنوات الاخيرة من عمره الشريف الى التذكير
بمجموعة القيم والمثل والاهداف التي شكلت الاساس لانطلاق الثورة، وترسيم وتوضيح اولويات النظام الجمهوري الاسلامي والثورة الإسلاميّة العالمية على اساس هذه القيم والاهداف.
لقد سعى الإمام الخميني من خلال هذه البيانات ـ وبطرح تقييمه عن مجمل العناصر الموجودة في المجتمع الايراني والعالم الاسلامي، وكذلك تحليلاته عن الانظمة الحاكمة في عالمنا المعاصرـ لتوضيح الطريق امام انتخاب واختيار مستقبل النظام، وتبيين تكليف كل شريحة ازاء الظروف المستقبلية، وفي غيابه.
وقبل عدة سنوات من رحيله، وتحديداً في 15 شباط 1983، كتب الإمام الخميني وصيته السياسية الإلهيّة استناداً الى هذا المبدأ، وبوحي من هذا الدافع. وتعد هذه الوصية ـ التي طبعت ونشرت حتي الآن بمختلف اللغات ـ نداء الإمام الاخير المتضمن اصول فكره واهدافه وارشاداته الخالدة لانصاره ومحبيه. ان كتابة وصية بهذا النحووبهذه الابعاد، عملٌ لم يسبق له مثيل بين فقهاء الشيعة ومراجع التقليد، ودليل على عمق اطلاع الإمام على الحاجات الحالية والمستقبلية للمجتمعات الإسلاميّة، وعلى شدّة احساسه بالمسؤولية في هذا المجال.
ان بيانات الإمام الخميني الاخيرة، هي في الحقيقة شرح وتفسير للقيم التي دافع عنها في وصيته والامور السياسية التي طرحها فيها.
ومن جملة الخصائص التي تميزت بها بيانات الإمام في أواخر عمره، تأكيده على ضرورة التفات المسلمين الى نوعين متضاربين من الفكر الديني والاسلامي. إذ ان سماحته ـ استناداً للشواهد التاريخية العديدة ـ يعتقد بأنّ الاسلام وسائر الاديان الإلهيّة ـ منذ سحيق الزمان وحتى اليوم ـ عرضت بصورتين متضادتين تماماً. فمن جانبٍ كان هناك الدين والاسلام المحرّف الذي استغله الظالمون والمستعمرون، والذي ابتدعه المتحجرون والقشريون من رجال الدين الكاذبين. ومن جانب آخر كان الدين والاسلام الحقيقي الذي حفظ وانتشل من احضان الخرافات والشعوذات بدماء المجاهدين والمساعي الحثيثة لعلماء الدين الملتزمين طوال التاريخ. وبذا فإن احد اسرار نجاح الإمام الخميني بتحريك الامة الإسلاميّة يتمثل في قدرته على بيان التضاد المستمر بين هذين النوعين وتوضيح سمات كل واحدٍ منهما.
كان الإمام الخميني يعتقد بأنّ تجاهل هذه الحقيقية التاريخية وعدم محاولة التعرف عليها، هو الذي ادى الى نفوذ الالستعمار الي البلدان الإسلاميّة، وابتعاد المسلمين عن عصور التحضر والثقافة الباهرة التي كانوا عليها، ثم الابتلاء بالواقع الرهن، حيث نرى ـ للاسف ـ الحكومات الإسلاميّة التي رفع اسلافها شعار الاسلام يعلوولا يُعلى عليه ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، تستجدي اليوم اعداء الاسلام من الكفار والمشركين لمواصلة حياتها والحفاظ على حدودها.
كان الإمام الخميني يعبر عن الفهمين المتباينين للاسلام في عصرنا الحاضر بـ الاسلام الاصيل والاسلام الأميركي. إذ انه كان يعتقد بأنّ الاسلام الذي تتجاهل احكامه القرآنية المسلّمة وسنّة نبيه الاكرم(ص) فيما يتعلق بالمسؤوليات الاجتماعية، والاسلام الذي تترك منه ابواب الجهاد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والعدالة الاسلاميّة والاحكام المرتبطة بالعلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في المجتمع الاسلامي، ويحول دون مشاركة المسلمين في السياسة وفي تقرير مصيرهم، ويرى الدين
يتلخص في مجموعة من الاذكار والعبادات الفردية دون الالتفات الي فلسفتها وروحها الحقيقية، ان مثل هذا الاسلام هو الذي تدعواليه أميركا ومن يدور في فلكها.
يستند سماحة الإمام في تحليله هذا الي ظواهر تاريخية وشواهد دامغة مستلة من الوضع الذي كانت عليه البلدان
الإسلاميّة. فسماحته يعتقد بأنّ الاستعمار الحديث هو نتاج لمساعي المستعمرين السابقين. إذ انهم سعوا الي تغيير دين
الجماهير المسلمة عن طريق المبشرين المسيحيين. ولمّا فشلوا في ذلك حولوا مساعيهم منذ ذلك الزمان وحتى الآن لتنصب على ابطال مفعول الاحكام الإسلاميّة السامية وتشويه الدين من الداخل. ونتيجة ذلك مشهودة تماماً، فجميع البلدان الإسلاميّة اليوم تعتمد في انظمتها وقوانينها الموضوعة واساليبها في القضاء وفي هيكل النظام الحكومي والقوانين السياسية والاجتماعية، على القوانين والاساليب الغربية المعادية للدين، والتي تتعارض في ماهيتها مع القوانين المستندة الى الوحي.
ان الاسلام الأميركي هو الذي يتيح للثقافة الغربية ومفاسدها وتحللها النفوذ الى اعماق المجتمعات الاسلامية ويهلك الحرث والنسل. الاسلام الأميركي هو الذي فسح المجال للحكومات العملية للاجانب ان تمارس سلطتها على المسلمين وتقف باسم الاسلام في مواجهة المسلمين الحقيقيين، وتمد في الوقت ذاته يد الصداقة الى اسرائيل وأميركا، اعداء الاسلام.
كان الإمام الخميني في بياناته الاخيرة يؤكد بوضوح اكبر هذه الحقيقة؛ وهي ان الطريق الوحيد لانقاذ البشرية من مشكلاتها الراهنة هو العودة الى عصر الدين والاعتقاد الديني، وان السبيل الاوحد لتحرير البلدان الإسلاميّة من وضعها الحالي المؤسف هو عودتها الى الاسلام الاصيل والى هويتها الإسلاميّة المستقلة.


مؤلفات الإمام الخميني:ترك الإمام الخميني عشرات الكتب والمصنفات القيّمة في البحوث الاخلاقية والعرفانية، والفقهية، والاصولية، والفلسفية، والسياسية، والاجتماعية، وان الكثير منها لم ير النور حتي الآن. ومما يؤسف له ان عدداً من رسائله ومؤلفاته النفيسة فقدت اثناء الانتقال من منزل مستأجر الى آخر، وخلال مداهمات ازلام السافاك المتكررة لمنزله ومكتبته الشخصية.
كان الإمام يمتلك خطاً جميلاً، وكان يتبع في تأليفاته قواعد التصنيف القديمة، والنظم في الكتابة ويتجنب الاطالة.. ان اسلوبه النثري واستخدام المحسنات البديعة والابداع في التراكيب والاساليب المحببة، التي كانت تتجلى في بياناته السياسية والدينية، احدثت تحولاً في الادبيات الدينية والسياسية في إيران. وان المفردات والتركيبات الخاصة بالامام اصبحت اليوم متداولة الاستعمال في المتون الادبية الفارسية بل حتى في عرف المحاورات العامة ليدى الشعب الايراني. ومما يذكر ان بعض مؤلفات الإمام وتناسباً مع موضوعها التخصصي (الفقه، الاصول والعرفان) كتب اساساً باللغة العربية، كما ان بعضها كتب باللغة الفارسية.
واضافة الي المؤلفات العلمية، كان لدى الإمام عدد من الرسائل العلمية لبعض المفكرين تعد نسخاً خطية فريدةً، قام سماحته باعادة كتابتها بخط جميل. كتبت بعض مؤلفات الإمام الخميني باسلوب وبطريقة تخصصية بحتةع بحيث يتعذر فهم متونها وموضوعاتها دون الاستعانة بشرح أو تفسير اساتذة ذلك العلم. وبعضها الآخر كتب باسلوب بسيط. فالكتب التي اعيد طباعتها من قبل مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني (قدِّس سرُّه) مؤخراً، امتازت بمزايا ايجابية كثيرة، منها التقديم والهوامش التوضيحية والفهارس التي أضيفت اليها، كذلك دقة طباعتها وصحة متونها، وما ارفق بها من صور عن اصل نسخها الخطية. ويذكر ان بعض آثار الإمام قامت المؤسسة بنشره لاول مرة، وما زالت بعض مصنفات الإمام لم تر النور بعد، ويتم الآن تنظيمها وكتابة توضيحات لها واعداد فهارس لها، لتجد طريقها الي النشر.
نورد فيما يلي تعريفاً بأسماء مؤلفات الإمام الخميني وتصانيفه تبعاً لتاريخ كتابتها. وبطبيعة الحال ان التعريف بأيّ واحدٍ من هذه المصنفات يتطلب بحثاً مستقلاً، وقد تمّ بالفعل انجاز الكثير من ذلك عبر مقالات وكتب كثيرة نُحيل القارئ اليها اذا ما رغب في المزيد.
1- شرح دعاء السَحَر 2- شرح حديث رأس الجالوت 3- حاشية الإمام على شرح حديث رأس الجالوت 4- الحاشية على شرح الفوائد الرضوية 5- شرح حديث جنود العقل والجهل 6- مصباح الهداية الي الخلاقة والولاية
7- الحاشية على شرح فصوص الحكم 8- الحاشية على مصباح الانس 9- شرح الاربعين حديثاً 10- سرُّ الصلاة (صلاة العارفين ومعراج السالكين) 11- آداب الصلاة 12- رسالة لقاء الله 13- الحاشية على الاسفار
14- كشف الاسرار 15- انوار الهداية في التعليقة على الكفاية (مجلدان) 16- بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر 17- رسالة الاستصحاب 18- رسالة في التعادل والتراجيح 19- رسالة الاجتهاد والتقليد 20- مناهج الوصول الى علم الاصول (مجلدان)
21- رسالة في الطلب والارادة 22- رسالة في التقيّة 23- رسالة في قاعدة من ملك 24- رسالة في تعيين الفجر في الليالي المقمرة 25- كتاب الطهارة (4 مجلدات) 26- تعليقة على العروة الوثقى 27- المكاسب المحّرمة (مجلدان)
28 ـ تعليقة على وسيلة النجاة 29 ـ رسالة نجاة العباد 30ـ الحاشية على رسالة الارث 31ـ تقريرات درس الاصول لآية الله العظمي البروجردي 32ـ تحرير الوسيلة (مجلدان) 33- كتاب البيع (خمسة مجلدات) 34ـ الحكومة الإسلاميّة أو ولاية الفقيه
35ـ كتاب الخلل في الصلاة 36ـ الجهاد الاكبر (أو جهاد النفس) 37ـ تقريرات دروس الإمام الخميني 38ـ توضيح المسائل (رسالة عملية) 39 ـ مناسك الحج 40 ـ تفسير سورة الحمد 41 ـ استفتاءات 42 ـ ديوان شعر 43 ـ الرسائل العرفانية 44ـ الوصيّة السياسية الإلهيّة 45ـ البيانات، والاحاديث، واللقاءات، والاحكام والرسائل (22 مجلداً)

رحيل الإمام الخميني، وصال المحبوب، وفراق الاحبة:
لقد بلّغ الإمام الخميني قولاً ـ ومارس عملياْ جميع الاهداف والتطلعات وكل ما كان ينبغي له قوله أو فعله، بل سخر على الصعيد العملي كل وجوده من اجل تحقيق هذه الاهداف. والآن ـ وعلى اعتاب منتصف خرداد عام 1368هـ. (اوائل حزيران 1989م) ـ اعدّ الإمام نفسه للقاء عزيز افنى عمره لكسب رضاه. ولم يحن قامته لغيره ولم تبك عيناه لسواه، وان كل اناشيده العرفانية كانت تحكي ألم فراق المحبوب وبيان تشوقه للحظة وصاله. وها قد زفت الآن لحظة الوصال المؤنسة له والعصيبة لانصاره ومحبيه، فقد كتب في وصيته يقول: بفؤاد وادع وقلب مطمئن ونفس مبتهجة وضمير يؤمل فضل الله، استودعكم ايها الاخوة والاخوات أرحل الي مقري الابدي. وأنا بحاجة مبرمة الي صالح دعائكم. واسأل الله الرحمن الرحيم أن يقبل عذري في نقص الخدمة وفي القصور والتقصير. وارجومن ابناء الشعب أن يقبلوا عذري في كل نقص وقصور وتقصير. وأن يسيروا قدماً بعزم ومضاء.
وحينما تقف الجماهير المحبة للإمام جنب ضريحه، فإنها تتمتم بهذه العبارات المتواضعة لتجيب سماحته قائلة: ايّها الإمام! عن ايّ قصور أو تقصير تتحدث؟ فعلى حدِّ علمنا وعلم آبائنا، وطبقاً لما رأينا وسمعنا، انك كنت صلاحاً ونوراً وطهراً خالصاً اشهد انك قد اقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر وجاهدت في الله حق جهاده
الغريب ان الإمام الخميني قال في احدى قصائده التي نظمها قبل سنوات من وفاته:
تمر السنون وتتوالى الحوادث وانا انتظر الفرج في منتصف خرداد
وتتحدث الابيات التي سبقت هذا البيت عن ألم الهجران والأمل بتحقق لحظة الوصال. وها هي لحظة وصال المحبوب قد حانت في النصف من خرداد عام 1989م.
قبل ايام معدودة من رحيله، علمت الجماهير بمرض الإمام وما اجري له من عملية جراحية. ان الوضع الروحي للجماهير في تلك الايام يعجز الانسان حقاً عن وصفه، فمراسم الدعاء والتوسل تجري في كل حدب وصوب، في المنازل والحسينيات والتكايا والمساجد وفي مختلف انحاء البلاد، بل في كل مكانٍ من العالم وجد فيه محب للامام. ولعلك في تلك الايام لاتكاد ترى احداً بمقدوره خفاء آثار الحزن والغم عن محياه. العيون باكية، والقلوب متعلقة بجماران.. الساعات تمرّ ببطء شديد، وإيران كلها تلهج بالدعاء. الفريق الطبي المشرف على علاج الإمام استنفد ما في وسعه، غير ان ارادة الله تدفع المقادير باتجاه آخر: يا أيّتُهَا النَّفسُ المُطمَئِنَّة * الرجِعي الى رَبِّكِ راضِيَةً مَّرضِيَّةً .
في تمام الساعة الحادية عشرة وعشرين دقيقة قبيل منتصف الليل، من الثالث عشر من خرداد 1368 (حزيران 1989م) حانت لحظة الوصال. وتوقف القلب الذي اضاء قلوب الملايين بنور الله والمعنوية.
في الأيام التي لازم فيها سماحته فراش المستشفى. وضع محبوالامام عدسة خفة تصور الإمام في تلك الايام، واثناء
العملية الجراحية، ولحظة التحاقة بالرفيق الاعلى. وحينما بثّ التلفزيون الايراني جانباً من حالات الإمام المعنوية
والاطمئنان الذي كان عليه، كادت القلوب تتفجر من الشوق، بما يعجز ايّ وصف عن التعبير عنه.
كانت الشفتان في ذكر دائم، وفي آخر ليلة من عمره الشريف وبينما كانت عدّة حقن من المواد المغذية موصولة
بذراعيه، قام ليلتها يؤدي نافلة الليل ويتلوالقرآن. بدت على محياه في الساعات الاخيرة طمأنينة وهدوء ملكوتيان
وكان يتمتم بصورة دائمة بالشهادة بوحدانية الله ويقر باعتقاد برسالة النبي الاكرم صَلَّي اللهُ عَلَيهِ وٰاله حتى عرجت روحه العظيمة الي الملكوت الاعلى. فكانت الراحلة التي خلّفت في القلوب ناراً لا تخمد.
ولما اُذيع خبر رحيل الإمام، حدث ما يشبه الزلزال العظيم، فتفجرت الاحزان وانفجرت العيون بالدموع في إيران وفي كل مكان وجد فيه من عرف الامام ونهل من فيض هدايته. وراح المحبون يلطمون الرؤوس والوجوه، بما تعجز الاقلام، بل يعجز أيّ بيان عن تصوير ابعاد ما حصل، وما تدفق من امواج الاحاسيس والمشاعر المتلاطمة.
ويحق للشعب الايراني وللمسلمين الثوريين، كل هذا النحيب والضجة التي لم يسجل التاريخ نموذجاً يضاهيها بالشدّة والعظمة، إذ انهم فقدوا عزيزاً اعاد لهم عزتهم المهدورة، وكفّ ايدي الملوك الظالمين والناهبين الأميركان والغربيين عن اراضيهم، وأحيا الاسلام وحقق للمسلمين المجد والعزّة، واقام الجمهورية الإسلاميّة، ووقف بوجه القوى الشيطانية بثبات ليواجه مئات المؤامرات التي استهدفت اسقاط النظام وقلب نظام الحكم وإثارة الفتن في الداخل والخارج طوال عشرة اعوام. كذلك قاد الدفاع المقدس علي مدى ثمانية اعوام في جبهة واجه فيها عدواً كان يحظي بشكل صارخ بدعم القوى الشرقية والغربية الكبرى.
لقد فقدت الجماهير قائدها المحبوب ومرجعها الديني والمنادي بالاسلام الاصيل.. ربما يقف أولئك العاجزون عن درك واستيعاب هذه المفاهيم، حيارى وهم يشاهدون حال الجماهير ـ التي عرضتها الافلام التلفزيونيةـ اثناء مراسم توديع وتشييع ودفن الجثمان الطاهر للإمام الخميني، ولعلهم يصابون بالدهشة اذا ما سمعوا بوفاة العشرات الذين لم يتمكنوا من تحمل ثقل الصدمة، فتوقفت قلوبهم عن العمل، أو بسقوط العشرات الآخرين مغشياً عليهم من شدّة الحزن وتناقلتهم الايدي فوق رؤوس امواجٍ هائلةٍ من البشر لينقلوا الى المستشفيات.. الى غير ذلك ...
بيد أن أولئك الذين يعرفون معنى الحب والذين امتحنت قلوبهم لذته، يرون كل ذلك امراً طبيعياً، والحق ان الجماهير الإيرانية كانت محبة للإمام الخميني، وما أجمل الشعار الذي رفع في الذكرى السنوية لوفاته حب الخميني حب لكلّ ما هو جميل.
في الرابع من حزيران 1989م، عقد مجلس خبراء القيادة جلسته الرسمية، وبعد ان تليت وصية الإمام الخميني من قبل آية الله الخامنئي ـ وقد استغرق قراءتها ساعتين ونصف الساعة ـ ابتدأ البحث والتشاور حول تعيين من يحلُّ محل الإمام الخميني ليكون قائداً للثورة الإسلاميّة، وبعد ساعات من البحث والنقاش تمّ وبالاجماع ترشيح آية الله السيد علي الخامنئي (رئيس الجمهورية آنذاك) لتسنم هذا الموقع الخطير. وآية الله الخامنئي هو احد طلاب الإمام الخميني ـ سلام الله عليه ـ ومن الوجوه البارزة في الثورة الإسلاميّة، ومن انصار انتفاضة الخامس من حزيران، وقف جنباً الي جنب سائر انصار الثورة حاملاً روحه في راحتيه طوال فترة نهضة الإمام وفي جميع الحوادث التي شهدتها الثورة.
سنوات عديدة والغربيون وعملاؤهم في الداخل كانوا يؤملون انفسهم بأيام ما بعد رحيل الإمام الخميني، بعد أن يئسوا من الحاق الهزيمة بالإمام في حياته. لكنَّ وعي الشعب الإيراني وسرعة مجلس خبراء القيادة في اختيار الشخص المناسب للقيادة، ودعم انصار الإمام لذلك، بدد آمال اعداء الثورة، ولم يخب املهم في ان تكون وفاة الإمام نهاية نهجه فحسب، بل ان عصر الإمام الخميني ـ في الحقيقةـ ابتدأ على نطاقٍ أوسع من السابق بعد وفاته. وهل يموت الفكر والصلاح والمعنوية والحقيقة؟
في يوم وليلة الخامس من حزيران 1989م تجمع الملايين من ابناء طهران والمعزون من ابناء المدن والقرى،في مصلى طهران الكبير ليلقوا النظرة الاخيرة على الجثمان الطاهر لرجل اعاد بنهضته وثورته سيادة القيم والكرامة في عصر الظلم الاسود، وفجر في الدنيا نهضة التوجه الي الله والعودة الي الفطرة الانسانية.
لم يكن ثمة ايّ مظهر من مظاهر المراسم التشريفاتية عديمة الروح. كل شيء كان جماهيرياً تعبوياً وعشقياً. وكان جثمان الإمام الموشح بالقماش الاخضر موضوعاً على دكة عالية يضيء كدرّة نفيسة ويتحلق حوله الملايين من اصحاب العزاء. وكان كل واحدٍ من ذلك الجمع الغفير يتمتم بحزن مع إمامه الفقيد ويذرف الدموع. امتلأ المكان والطرق السريعة المؤدية الى المصلى بالجماهير الموشحة بالسواد. ورفعت اعلام العزاء على الابواب والجدران، وانطلق صوت القرآن يدوي من مآذن المساجد والمراكز والدوائر والمنازل. وما ان هبط الليل حتى أوقدت الشموع تذكيراً بالمشعل الذي أوقده الإمام، واضاءت منطقة المصلى وما حولها. تحلقت العوائل المفجوعة حول شموعها وهي ترنوالي المرتفع النوراني الذي رقد فيه امامهم المحبوب.
لقد احالت صرخات ياحسين التي كانت تنطلق من التعبويين الذين شعروا باليتم، المكان الى عاشوراء جديدة.
هل حقاً ان هذا الصوت الرباني لم يعد ينطلق من حسينية جمران؟ ... بقيت الجموع المفجوعة تندب فقيدها حتى
الصباح.
وفي الساعات الاولى من يوم السادس من حزيران، ادّت الملايين الصلاة على جثمانه الطاهر بامامة آية الله العظمى الكلبايكاني.
ان عظمة الموقف الحماسي الذي جسدته الحشود المليونية التي هبت لاستقبال الإمام الخميني في الثاني عشر
من بهمن عام 1357ش (الاول من شباط عام 1979م)، وتكراره ثانية وبنحواكثر ابهة وعظمة في مراسم تشييع
جثمان الإمام الطاهر؛ لهي حقاً من عجائب التاريخ. لقد قدرت وكالات الانباء العالمية الرسمية عام 1979 عدد
الذين جاءوا لاستقبال الإمام بستة ملايين شخص. اما الذين شاركوا في مراسم التشييع فقد قدروا بتسعة ملايين شخص. هذا في وقت تضافرت جهود البلدان الغربية والشرقية خلال الاحدي عشرة سنة من قيادة الإمام في تصعيد عدائها للجمهورية الإسلاميّة وفُرض عليها حرب الثماني سنوات ومئات المؤامرات والدسائس الاخرى، وجرعوا ابناء الشعب الايراني معاناة ومعضلات كثيرة، وأفقدوه اعزة لا يحصون في هذا الطريق. ومن الطبيعي كان ينبغي ان يتعب ابناء الشعب ويفتر حماسهم تجاه ثورتهم، إلاّ ان ذلك لم يتحقق مطلقاً. ان الجيل الذي تربى في مدرسة الإمام الخميني كان قد آمن تماماً بمقولة الإمام هذه التي يقول فيها: ان القدرة علي تحمل المعاناة والآلام والتضحيات والحرمان، تتناسب مع عظمة الهدف وقيمته وسموه.
بدأت مراسم التشييع، فانطلقت الجموع الغفيرة من مصلى طهران الى مرقد الإمام جوار مقبرة جنة الزهراء (مزار الشهداء)، وضجّت الجموع اطفالاً ونساءً ورجالاً وكأن أرواحهم تزهق من ابدانهم. مرت ساعات دون ان يتمكن الجمع من الحركة، بسبب تدفق الاحاسيس والمشاعر التي يصعب التحكم بها. مما اضطر المسؤولون الي حمل الجثمان الطاهر بطائرةٍ سمتية ليُنقل الى مثواه الأخير.
ومع انهم كانوا قد وضعوا حواجز عالية للحيولة دون ازدحام المعزّين في محل الدفن، الا أنّه ما ان حطت الطائرة
على الارض، حتى اضطرب كل شيء. فقد تأججت نار الفراق في القلوب، وفجر الاحساس بالفراق الحزن والغضب الي درجة جعلت كل جهود المكلفين باتمام عملية الدفن تذهب سُدى. وكان التلفزيون ينقل الوقائع في بث حيّ. وبصعوبة بالغة تمّ استرداد الجثمان من ايدي الجماهير، واعيد الى الطائرة وحمل من جديد نحوحسينية جماران.
إنَّ أُولئك القابعين في الغرب، أو في ظل رؤيتهم الغربية، ممن يرون الحياة عبارة عن نافذة تطل على المال واللذة، وقد نسوا في صخب الحياة الآلية الاصالة والحب الحقيقي والقيم، لا يمكنهم ان يدركوا ابعاد ما يشاهدونه من صور تدفين جثمان الإمام الطاهر.
فلوسمح التضليل والتحريف ونعيق الاعلام المسموم لاعداء الحقيقة، بأن يطلع هؤلاء علي وصية الامام فحسب، أو خطاب من خطاباته، بنحويتجردون فيه عن الخلفيات المسبقة، وبوحي من الانصاف والفطرة والوجدان، فانهم لا شك سوف يغيرون نظرتهم.
بعد ان تعذر اتمام مراسم الدفن نتيجة لتدفق مشاعر المعزين اعلنت الاذاعة وعبر بيانٍ رسمي عن تأجيل المراسم الى اشعار آخر. غير ان المسؤولين كانوا على يقين من ان مرور الوقت سيضاعف اعداد الوافدين من عشاق الإمام من المدن والقرى البعيدة، لذا اضطروا الى اتمام الدفن في عصر ذلك اليوم متحملين اشد المعاناة والصعوبات البالغة. وقد نقلت بعض وكالات الانباء جانباً من تلك المراسم.
ان عشرات المجلدات التي ضمت القصائد الشعرية التي نظمها الايرانيون وغير الايرانيين، والتي تمّ جمعها ونشرها
فيما بعد، تعدُّ بحدِّ ذاتها تعبيراً عن طبيعة العواطف الجماهيرية التي تفجرت في تلك الايام. وكان من بينها ما عُدَّ من امهات القصائد ومن اروع الملاحم الشعرية في الادب الفارسي.
ومن يومها اخذت تقام مراسم العزاء في الرابع من حزيران من كل عام ـ حتي تاريخ كتابة هذه االسطورـ
بالعظمة والابهة نفسها التي اقيمت بها في السنة الاولي'.
وبهمّة عشاق الإمام تمّ تشييد مبنى حول ضريحه المقدس بسرعة لاتصدق، كتعبير عن نوعٍ من وفاء الامةالإسلاميّة لهذا القائد المعنوي العظيم، وترجمة لخلوده الابدي، واضحى مزاره الشريف ـ خصوصاً في المناسبات الدينية ـ ملتقى احبائه وزواره من انحاء إيران ومن سائر البلدان. وراحت الراية الحمراء التي ترفرف فوق قبة ضريحه تعيد الي الاذهان الراية الحمراء لقبة سيد الشهداء الحسين بن علي عليْه السّلام وتذكر بان النهضة العاشورائية للامام الخميني ايضاً ـ كما هو حال الثورة الحسينيةـ ستدفق دماء العزّة والإنسانية والاستقامة على دين الله في عروق المسلمين الغيارى علي مرّ التاريخ.
وهكذا اضحي رحيل الامام، كما كانت حياته، منشأ للصحوة والنهضة، وخلد نهجه وذكراه. لأنه كان حقيقة، والحقيقة خالدة ما خلد الدهر.
لقد كان سماحته تجليّاً من تجليات الكوثر. وان كوثر الولاية متدفق ابداً علي مر العصور والازمان؛ وستبقى حكاية هذا العبد الصالح خالدة خلود الدهر.
والسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً.











ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء