لم يكن تحقق وعود الإمام الخميني وانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، حادثة داخلية لتغيير نظام سياسي معين، بل كان ذلك ـ وكما عبر عنه الكثير من ساسة أميركا واسرائيل واوروبا في مذكراتهم التي كتبوها عن تلك الايام - زلزالاً مدمراً للعالم الغربي.
ففضلاً عن ان أميركا فقدت بنجاح الثورة اهم موقع جغرافي واقتصادي وعسكري لها في احدى اشدّ مناطق العالم حساسية وفي بلد كان يمتلك اطول حدود مشتركة مع منافسه الشرقي (الاتحاد السوفيتي السابق)، فإن امواج هذا الانفجار الهائل، كانت قد هزت الانظمة العملية في البلدان الإسلاميّة والعربية واصابتها بالذعر الشديد.
كانت رسالة الثورة الإسلاميّة الاصيلة ذات ماهية ثقافية بنيت على الفكر الديني والقيم المعنوية. ومن هنا كان انتصار الثورة يعني صدور رسالتها وقيمها لتفجير موجة من النهوض والتحرر في البلدان الإسلاميّة والعالم الثالث. وفي الفترة نفسها التي حققت الثورة الإسلاميّة نصرها في إيران سقط النظام العميل لامريكا في (نيكاراغوا). وفي افغانستان اضطر الاتحاد السوفيتي الى القيام بانقلاب دموي دفع علي أثره قواته العسكرية لاحتلال تلك الدولة للسيطرة على التحرك الاسلامي. كما ان الجماهير العربية المسلمة في لبنان وفلسطين احتفلت بانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران وابتدأت مرحلة جديدة من نضالها، مستلهمةً من الثورة الإسلاميّة افكار واساليب جديدة. كذلك عادت الحياة الي الحركات الإسلاميّة في مصر وتونس والجزائر والسودان والحجاز وتركيا.
بعد الحرب العالمية الثانية كان قد ساد العالم نظام ظالم.
فقد تمَّ تقسيم مناطق العالم بين القوتين المنتصرتين (الشرقيّة والغربية) واوكلت مهمة الحفاظ على هذا النظام المقيت الى حلفي (وارشو) و(الناتو). ولم تستطع اية حركة او ثورة في العالم الثالث من تحقيق أيّ هدفٍ لها خارج هذا الاطار ودون الارتباط باحد القطبين الحاكمين. ومع ذلك حققت الثورة الاسلامية نصرها في عالمنا المعاصر وفي منطقة كان يعدّها الغربيون منطقة أمنٍ لهم، وكان شعارها لاشرقية لا غربية.
لقد وقفت نهضة الإمام الخميني وبشكل مباشر بوجه الامبريالية الأميركية وألحقت الهزمية بها، الأمر الذي جرَّد الشيوعيين من سلاحهم الذي كانوا يلوحون به (الوقوف بوجه الامبريالية). ولاول مرة في العصر الحاضر يطرح الدين كعامل محرك في ميدان نضال الشعوب.
وعلي الرغم من مشاعر الشك والترديد، والمساعي التي بذلت على المستوى الدولي للحفاظ على نظام الشاه وللحيلولة دون انتصار الإمام الخميني في نهضة، حققت الثورة الإسلاميّة النصر في المرحلة الاولى من صراعها، ولهذا فإن انتصارها كان يعدُّ معجزة اكثر منه تحولاً عادياً.
وفيما عدا الإمام الخميني والجماهير المليونية التي آمنت بوعوده بعيداً عن التحليلات العادية، فإن معظم المحللين السياسيين وجميع الذين كان لهم دور في الاحداث التي شهدتها إيران، كانوا يرون هذا الانتصار ـ حتى في أواخر ايام النظام البائد ـ امراً مستحيلاً.
لهذا ابتدأت مشاعر الخصومة والعداء للنظام الاسلامي الفتي بالظهور والانتشار منذ صباح الحادي عشر من شباط 1979م. وقد قادت أميركا جبهة الاعداء، وكان لبريطانيا وبعض دول أوروبا وجميع الانظمة العملية للغرب المشاركة الفعالة في تلك المواجهة. كذلك فإن الاتحاد السوفيتي ومن يدور في فلكه ايضاً، وقفوا الي جنب الأميركان في العديد من المواقف العدائية ودعموا موقفهم بسبب عدم ارتياحهم لما وقع في إيران وما نتج عنه من حاكمية الدين.
ومن النماذج البارزة لهذه التحالفات، ما حصل من تحالف اليسار واليمين ضد الثورة داخل البلاد، الأمر الذي اظهرت الوثائق ـ فيما بعد ـ ارتباطهم بكل من سفارة الاتحاد السوفيتي وأميركا. والابرز من هذا، تضافر جهود الشرق والغرب في تسليح صدام ودعمه في حربه المفروضة ضد الجمهورية الإسلاميّة.
غير أن الإمام الخميني مارس دوره القيادي بالمنطق نفسه الذي ابتدأ به قيادة النهضة وحيداً قبل سنوات، فقد قاد سفينة الثورة وهي تعيش في خضم الفتن والضغوط الخارجية، رافعاً شعار انتصار الدم على السيف. وكان علي اعتقاد راسخ بأنَّ المجتمع الذي يؤمن بالشهادة كأعلى درجة من الكمال الروحي للانسان ويجاهد في سبيل الله، لابدَّ وان ينتصر.
وكان الإمام الخميني بصدد تعبئة الشعب الايراني لبناء البلاد، وتجسيد نموذج المجتمع الديني السليم والمتطور امام العالم. وابتدأ جهاد الشعب تحت شعار (جهاد البناء) وانطلق الآلاف من المتخصصين والمؤمنين بالثورة الى مختلف المناطق المحرومة والقرى المنتشرة على طول البلاد وعرضها، ليبدأوا حركة اعمار كبرى تشمل شق الطرق وبناء المراكز الصحية وايصال الماء والكهرباء الى مختلف مناطق البلاد. غير انه لم يمر وقت طويل حتى اخذت امواج الفتن والضغوط الخارجية تنهال على البلاد. فقد صممت أميركا على الاستفادة من طابورها الخامس في إيران لاشغال النظام الاسلامي بمشكلاتٍ داخلية وبث الفرقة والخلاف لايجاد الفرصة المناسبة لاسقاط النظام الفتي.
وقد عملت السفارة الأميركية بجد ـ عن طريق بعض عناصر الحكومة المؤقتة ـ لتمهيد الطريق لمشاريعها المستقبلية، وقد
حققت بعض النجاح في ذلك ايضاً. فقد كانت حكومة السيد بازركان تتألف من افرادٍ اتسم اكثرهم بالتوجهات القومية المحافظة. ولم يكن بمقدور هؤلاء هضم الظروف والضرورات الثورية ودرك الارشادات والافكار السامية للامام الخميني. كذلك فان ضعف الحكومة المؤقتة وروح المماشاة التي كانت تتسم بها ساعد الفئات المعادية للثورة لاعادة، تنظيم صفوفها بسرعة فائقة مستفيدة من المعونات الخارجية التي كانت تتلقاها، ثم المبادرة الى خلق التشنجات في كنبد وكردستان وسائر المناطق.
كذلك فإن النظام البعثي العراقي ـ الذي اصيب بالذعر اكثر من الانظمة العربية الاخري من انتصار الصورة الإسلاميّة نتيجة خوفه من امكانية انتفاضة شعبه ـ بادر الى تسليح العناصر المعادية للثورة في جنوب البلاد وفي كردستان. كما كان للسفارتين الأميركية والسوفيتية نشاط فعال في لم شمل افراد السافاك وبعض عناصر النظام السابق وتحريك الفصائل الشيوعية ومجاهدي خلق (المنافقين) للقيام باعمال مؤذية ضد الثورة. فقد قامت (منظمة الفرقان) باغتيال عضومجلس الثورة العلامة الشيخ مرتضى المطهري في 2/5/ 1979 وآية الله القاضي الطباطبائي في 1/11/1979، والدكتور المفتح في 9/12/1979، واللواء القرني رئيس اركان الجيش في 23/4/1979 وفشلت في اغتيال الشيخ الهاشمي الرفسنجاني والموسوي الاردبيلي.
وكان الإمام الخميني يعتقد ـ نظراً لمعرفته بالأيادي الخفية ـ بضرورة القضاء، بسرعة وبحزم، على اعداء الثورة، خصوصاً الاضطرابات التي وقعت في كردستان. غير أنَّ الحكومة المؤقتة ضيّعت الفرصة بانشغالها بالمفاوضات العقيمة في كردستان وتعاملها بليّن مع مثيري الاضطرابات، وهيأت عملياً الارضية لتفاقم الاوضاع.
من جانب آخر فإنَّ الاقتصاد الذي تركه النظام المباد والمعتمد كلياً على واردات النفط، دفع أميركا واوروبا ـ المطلعتين على هذه الحقيقة ـ الى دعم موقف النظام السعودي ومؤيديه في منظمة (أوبك) لتخفيض اسعار النفط الى ادنى مستوى لها مما الحق اضراراً بسوق النفط الايراني.
ومع وجود جميع هذه المشاكل لم يذعن الإمام الخميني ولم يرضح لقبول المصالحة ولم يتراجع عن مواقفه حتى خطوة واحدة. فبادر الى تشكيل المؤسسات الثورية لترميم ضعف الحكومة المؤقتة ولضمان ديمومة الثورة. وقد وقفت الجماهير الايرانية بعزم واستعداد للتضحية دفاعاً عن الثورة، ولم يمض اكثر من شهرين على انتصار الثورة حتى صوت 2،98% من ابناء الشعب في الاستفتاء الشعبي الذي اُجري في الاول من نيسان 1979م لصالح الجمهورية الإسلاميّة، في واحدةٍ من اكثر الانتخابات حريةً في تاريخ إيران. وبعدها اجريت الانتخابات للمصادقة على الدستور، وانتخاب نوّاب مجلس الشورى الاسلامي.
وكان الإمام الخميني يتحدث الى محبيه الذين كانوا يزورونه يومياً في مقر اقامته بقم، وفي المدرسة الفيضية بما يدعم ويرسخ اركان النظام الاسلامي، ويبين الاهداف والاولويات في الحكومة الإسلاميّة ويدفع الجماهير للحضور الدائم في ميادين الاحداث. فقد سافر سماحته من طهران الى قم في الاول من آذار 1979 وبقي هناك حتى ألمّت به الازمه القلبية (22 كانون الثاني 1980). وبعد تسعة وثلاثين يوماً من العلاج المتواصل في مستشفي' القلب بطهران، اقام سماحته في منزل يقع بمنطقة (دربند) ثم نقل في 27/5/1980 ـ ونزولاً عند رغبته ـ الى منزل بسيط يمتلكه احد علماء الدين (حجة الاسلام السيد مهدي امام جماراني) في منطقة جماران، وبقي هنالك حتى فارق الحياة.