الإمام الخميني حي في ذاكرة التاريخ

الإمام الخميني حي في ذاكرة التاريخ

بقلم: محمد حسين طه
أين يوضع الإمام الخميني في حركة التاريخ العالمي المعاصر، وما هو موقعه بالتحديد في مسيرة التاريخ الإسلامي الحديث؟ هذان السؤالان يفتتحان الحديث في كل مرة يعود الحديث متناولاً شخصية الإمام الخميني وإنجازاته الضخمة التي تركت بصماتها المدوية في الزمان الإنساني.
بالطبع لا نجد سهولة في الإجابة على السؤالين لأن فضاء التعاطي مع فكر الإمام ومواقفه ومناهجه لايزال ملبداً بغيوم العداء وذهنيات الرفض لاسيما في الغرب الذي عاد يكتشف ذاته من جديد على وقع أقدام الإمام القادم برسالة طالما اجتهد الغرب في العمل على محاصرتها ومنعها من الدخول في التاريخ المعاصر.
وحينما يفتح الغرب ومريدوه ومقلدوه وأتباعه عيونهم على عودة الإسلام من دائرة التغييب إلى عالم الحضور، فان شعور الإحباط ومقتضيات الهزيمة في هذه المعركة يولد دخاناً من التراكمات العدائية تحفر لنفسها مواقع في ارض الفكر والسياسة والمناهج، وتصنع كمائن وسرايا هجومية، لتحول بين الشمس الحقيقية واشعاعها المعرفي وبين طالبي الحقيقة وعشاق الموضوعية.
ولكون الإمام، الرجل الذي اختلفت فيه المواقف إلى درجة كبيرة كغيره من صانعي التاريخ، فان الموقف من شخصية الإمام وفكره ومناهجه وإنجازاته يظل محكوماً بخلفيات أيديولوجية وشخصية ومذهبية، وقد لا يكون الإمام بدعاً من الرجال الذين اعتلت أسماؤهم ناحية التاريخ واختلف فيهم الناس، فليس هناك رجل اتفق عليه وفيه كلمة الإنسانية، وهذا صحيح، لكن الملاحظ أن الإمام حظي بقسط وافر من المواقف العدائية على خلفية انتمائه الإسلامي وموقفه من الغرب وشعاره الاستنهاضي الذي يدعو فيه المسلمين إلى العودة إلى الذات واستئناف طرق الحضارة الإسلامية بصلابة لا تلين وارادة لا تعرف التراجع وأنصاف الحلول.
وربما كان حزمه ومبدئيته القاطعة في هذا المجال، السبب الرئيسي الذي قاد إلى هذا التكتل والتألف في موقف العداء للإمام، ولكن مواصفاته لم تكن (تؤهله) للتفاهم مع الغرب بأي شكل من الأشكال، وهو في ذات الوقت لم يكن مقتصراً على منهج الهدم، بل عرض البديل وقدم العلاج، وهو بهذا اللحاظ خرج عن دائرة الاهتمام الموضوعي إلى دائرة الاهتمام السلبي في الرؤية الغربية ومن يتبناها، ولذلك لا نرى أثراً لاهتمام جدي في اكتشاف في هذا الرجل، فقد اعتاد العالم سماع احتفالات في الذكرى السنوية ووفاة العالم الفلاني، أو الفيلسوف الفلاني أو السياسي الفلاني، وفي هذه المناسبات تتم استعادة أفكار المحتفى به ويعاد اكتشافه من كل جديد على ضوء مستجدات العصر.
لكن شيئاً من هذا لم يحدث ولن يتم أحداثه مادام الأمر يتعلق بمناقب شخصيته، لا مصلحة للغرب والمتغربين في استجلاء مضامينها لتعرض على البشرية الباحثة عن التوازن بعد أن أعيتها مناهج العالم الواحد.
ها نحن إذن، نواجه مهمة التعريف بالإمام من جديد؛ فما شخص في العالم الإسلامي على الأقل لم يثر الإمام اهتمامه وتساؤلاته، من هو... وماذا يريد... وكيف يحقق أهدافه، ولماذا ينتهج هذا المنهج دون سواه؟ ولهذا تبدو المهمة شاقة وعصية، والأفضل تناول جانب معين من معالم شخصية الإمام للخلاص من العلوم في بحر مترامي وحتى نتجاوز مشكلة التفصيل وسنلجأ إلى المبادئ والأطر الكلية؛ فبعبارة موجزة، كان الإمام شخصية قيادية تمتعت بمواهب وقدرات وخصائص فردية لا نظير لها، حملت إلى العالم مشروعاً حضارياً، بأبعاد فلسفية ومعرفية وأهداف وغايات تنتمي إلى العالم العلوي وليس العالم الأرضي.
شخصية تبنّت خطاباً جمع الروحانية وعالم الغيب بسنن الحياة وقوانين العلم وأساليب المدنية الحديثة.
ولهذا لم يكن (الخميني) من شاكلة فلاسفة عصر التنوير الأوربي وقادة الأحزاب والدول ودعاة القومية وأبطال حروب التحرير ومقارعة الاستعمار... الذين سجلت أسماؤهم في التاريخ البشري الحديث، انه نمط فريد يشكل استمراراً لدعوات الأنبياء وتواصلاً مع خطاب الوحي، دون أن يكون شخصية" لا تاريخية" تتحكم فيها آراء المدنية الفاضلة بلا معاينة لشروط الواقع وتحديات العصر، ولهذا كان الإمام مزيجاً من المثالية والواقعية المطلق والنسبي، الرباني والبشري، الفلسفة والفقه، العرفان والسياسة، ومن حصيلة هذا الجمع اطل على العالم بمواصفات جملته (آخر حملة الرسالات في هذا القرن) بتعبير السيد طلال سلمان، وصاحب الرسالة عادة ما يكون صدى رسالته حاضرا حتى مع غيابه الفيزيائي وثوابته ظاهرة في متغيرات العصر، ومبادئه ماثلة في سيولة هذا العالم ومواقفه محفورة في ذاكرة التاريخ وما يهمنا بالدرجة الأساس، هو الحديث عن معالم مشروع الإمام، في وقت اصطخب الحديث عن الإسلام بوصفه عنوان هذا العصر، مع استمرار صحوة المسلمين ويقظة العالم على أصداء هذه الصحوة.
لقد حمل الإمام الخميني مشروعاً نهضوياً واعتمد في طرح مشروعه على منهج واضح يستقي من المنهجية الإسلامية ومن مكونات التاريخ والثقافة الإسلامية، والمشروع النهضوي يعني بوضوح أن المسلمين بحاجة إلى نهضة وتغيير في واقعهم نحو واقع أفضل؛ وليس التغيير بالموضوع اليسير، فقد عملت قوى إسلامية حركية منظمة، وزعامات إسلامية إصلاحية وتغييرية، كما تبنت عملية التغيير قوى سياسية، قومية ووطنية، ليبرالية ويسارية، لكن جماع هذه الجهود لم ينته إلى نتيجة مؤثرة، مثل ما استطاع الإمام الخميني تحقيقه في الواقع الإسلامي؛ فإما أن تلك الجهود كانت ناقصة وإما أنها حاكت النهضة الأوربية وعملت على احتذاء خطواتها.. فوقعت في خلل منهجي، خصوصاً عندما ولدت الدول القطرية وتوالى على الحكم أحزاب وأشخاص لم يتأصل انتماؤهم إلى المرجعية الإسلامية، بل كان انتماؤهم هامشياً، لأنها لم تكن مؤمنة بهذا الانتماء، وفي واقع الأمر فإنها عملت على القطع مع المرجعية الإسلامية واستبدالها بنهج الحداثة الغربية.
وكانت نتيجة هذه التبعية المنهجية، بقاء العالم الإسلامي يدور في هامش الغرب ويتحرك على ضفاف الذاتية والخصوصية فأضاع الطريقين؛ فلا هو تغرب بالكامل وأنجز أهدافه بمستوى ما تحقق في الغرب، ولا هو احتفظ بهويته وذاتيته على شاكلة اليابان على الأقل وأنجز نهضته العلمية والاقتصادية وتحديثه الاجتماعي. وللحق فإن التغريب ـ وان نجح في بعض الأوساط ـ ظل عصياً على اقتحام أسوار المجتمع التقليدي لسبب بسيط، يكمن في التغريب ذاته، والذي يعني اقتلاعاً وهجوماً ومصادرة وضياع الاستقلال والحرية، وقد جسدت المراحل التاريخية وعياً جماهيرياً يرى في الغرب آلية عدوانية وانحرافاً أخلاقياً وتبعية واستلاباً، وكان طبيعياً أن يظهر الرفض والمقاومة.
في ظل هذا الواقع كان الإمام الخميني يعايش محنة المسلمين ويفكر في منهج الإنقاذ، وهو مستوعب لتجارب الإسلاميين ولديه وضوح عن فعل سلطة الدول الحديثة التي تمسك بها القوى العلمانية التغريبية.
كان الإمام يرى أن انتظار التغيير الفردي على أهميته مشروع بطيء محفوف بالمخاطر؛ فالدولة الحديثة قادرة على محاصرة النشاط الإسلامي الذي يتبنى هذا المنهج وتستطيع حصاره وخنقه عبر القمع ووسائل الإعلام ومنهج التربية والتثقيف، وكان الإمام عميق الثقة بالجمهور، ويعتقد اعتقاداً راسخاً بإرادته التي تحتاج إلى تحريك صادق وسليم بشعار صادق ومنهج واضح، كما كان مؤمناً بدور عالم الدين المسلم الذي ظل بعيداً عن التلوث بالتيارات الفكرية الوافدة وأكثر التصاقاً بالبنية الاجتماعية، والأقدر على قيادة الجمهور بعد أن قدم حصاد التجارب صورة غير ناجحة عن دور القادة السياسيين الذي أنجبتهم الأحزاب السياسية وليدة (عصر الاستقلال)!
في ضوء هذه الرؤية طرح الإمام مشروعه التغييري النهضوي في ثوابت أساسية ستكون فيما بعد معالم الصحوة الإسلامية؛ فمشروع التغيير يبدأ من فعل ثوري ذي شقين: أحدهما داخلي والآخر خارجي.. الداخلي يعتمد بشكل أساس على بناء الشخصية الإسلامية وتغيير مضمونها الداخلي وإزالة ركام الانشطار العقائدي والجهل والخضوع والاستلاب، والتغيير الخارجي يعتمد على حركة ثورية تستند إلى أسلوب جماهيري مبسط؛ فالكتلة البشرية المندفعة بحس إسلامي جهادي والمتمسكة تستطيع اقتلاع الحواجز التي تحول دون التغيير. وكان أهم عامل ركز عليه الإمام هو إعادة الثقة وتوليدها في شخصية المسلم بتحطيم أسطورة (الطاغوت) المحلي والدولي، فكان يؤكد دائماً أن الجيش والنظام لا يستطيع مقاومة الجمهور، كما أن القوى الدولية لا تستطيع فعل شيء أمام إرادة ناهضة.
وحتى يضمن تعبئة شاملة لمشروع التغيير، لم يستثن أية قوة أو طبقة اجتماعية، بل خاطبها جميعاً، وبالخصوص عندما استطاع أن يردم الحاجز النفسي بين طبقة المتعلمين الجدد الذي انفتحوا على العلم الحديث والأيديولوجيات المعاصرة، وبين طبقة المتعلمين في الأوساط الحوزوية، والتي كانت تسميهم الأدبيات المعاصرة الطبقة التقليدية التي تقاوم التحديث والعصرنة وتصر على التمسك بالقديم ونبذ الجديد والتجديد! ولم تكن المسألة الثقافية غائبة عن تفكير الإمام، فكان يحذر من المتغربين ويدعوهم إلى العودة إلى الذات والدفاع عن استقلال الوطن وحرية الشعب وتحرير الاقتصاد، واكتشاف القدرة على بناء التقدم بفلسفة الاعتماد على الثقافة الخاصة والهوية المحلية.
لقد مثل الغرب ومواقفه عقدة العقد التي حالت دون نهوض حقيقي في العالم الإسلامي، وارتبطت علاقة العالم الإسلامي بالغرب الصناعي الرأسمالي والغرب المنهجي بإشكالية خطيرة؛ فالغرب هو مالك العلم والتكنولوجيا وهو صاحب نموذج التقدم، وهو في ذات الوقت العائق المهم لمسيرة التنمية والتحديث الحقيقي، لأنه فرض أيديولوجية التحديث وصادر حريات الشعوب وأرغمها في الدوران في فلك التبعية الشاملة له.
وكان لابد لأية حالة تغييرية أن تتخلص من أسر الغرب عبر تكسير روابط التبعية، وبناء نموذج وكيان سياسي يتعامل من موقع الند للند، ويتصرف بحرية واستقلالية. ومن هنا شكلت مواقف الإمام من الغرب العمود الفقري لمشروع النهضة، فقد اعتمد الإمام المفاصلة الجذرية وتبنى الضرب في العمق، دون أن يرفض الانفتاح المسؤول والتعاون الإنساني المفتوح بلا عقد ولا خلفيات وبدون شعور بالانسحاق والدونية.
وبهذه الصورة، كان الإمام مشروعاً مكثفاً لارهاصات وجهود التغيير الإسلامي منذ حركة السيد جمال الدين الأفغاني وجماع أفكار ورؤى إسلامية ساهمت فيها جهود مخلصين كبار في كافة المجالات، وعندما نجح مشروع النهضة في إنجاز اكبر خطواته التي تمثلت في انتصار الثورة الإسلامية وظهور كيان سياسي إسلامي كان يتوقف على نجاحه مواصلة الخطوات اللاحقة، فان الإمام عمل في المرحلة الثانية على بناء دولة المؤسسات والقانون الإسلامي باعتماد أسلوب الكفاح لتثبيت هوية الدولة وسياساتها الداخلية والخارجية، وبدء التغيير من الداخل ومواجهة عقود التغريب والتخريب الثقافي والأخلاقي والتربوي، عبر إعادة حاكمية الإسلام وتفصيل التشريع الإسلامي في حياة الناس من خلال مرونة التشريع والاجتهاد المنفتح على مشاكل الزمان والمكان. وفي نفس الوقت، فانه توجه إلى المسلمين في عموم الجغرافيا الإسلامية بخطاب مفتوح داعيا إلى التغيير، ولم تكن صحوة المسلمين الحاضرة إلا ثمرة للجهد الذي بذله الإمام دون التقليل من أهمية الجهود السابقة والحاضرة للحركات والقوى الإسلامية، لكن الصحوة تغذت بروح الثقة التي ولدها عودة الإسلام على المسرح السياسي والحضاري العالمي.
وربما لم تكن مصادفة أن يتزامن انتهاء عقد الثورة الإسلامية الأول بسقوط الصرح الماركسي على ضخامة الإنجاز المادي الذي حققته الأيديولوجية الماركسية، وبزوغ شمس الحرية في سماء شعوب إسلامية ظلت تتطلع إلى دينها وعقيدتها وهويتها وثقافتها ردحاً طويلاً من الزمن، وكان  الإمام قد استبق العالم في وعيه لسنن التاريخ والاجتماع في رسالته ذائعة الصيت إلى غورباتشوف التي أعلن فيها موت الأيديولوجية الشيوعية، واقترح وضعها في متاحف التاريخ، وكان ذلك في وقت كان الاتحاد السوفيتي دولة عظمى تتفاوض مع منافستها أمريكا على الحد من الأسلحة النووية.. كان الإمام مبشراً بعصر جديد هو عصر الإسلام الناهض الذي نفض فيه المسلمون عن كواهلهم تراكمات غطت وجه الإسلام الحضاري، ولما عاد الإسلام إلى صدارة الاهتمام في الوقت الحاضر، وغدا هو والحضارة الغربية ميداني الصراع البشري، فان الإمام حقق أعظم إنجاز، لأن الإسلام لم يعد تاريخاً وتراثاً يوفر مادة مهمة للأبحاث والدراسات، بل انه عاد مشروعاً حضارياً لا يحد من اندفاعه سوى تخلف المسلمين وتمزقهم، بيد أن عودة الوعي والروح إلى الجسم الإسلامي عززت الأمل في قدرة المسلمين على استئناف الطريق الحضاري والتواصل مع التاريخ الإسلامي الذي قطعته عهود الهيمنة الاستعمارية.
لقد انكسر القيد والحصار، وأصبح المسلمون وجهاً لوجه مع متطلبات النهوض والتغيير، تشهد على ذلك حركة الصحوة الإسلامية التي تعم شرق العالم الإسلامي وغربه وأعماقه؛ وأمام المسلمين أشواط من المسير وتحديات كبرى في مقدمتها وجود الكيان الصهيوني كموقع متقدم للمشروع الغربي الصهيوني الذي يستهدف معاكسة طريق النهوض. ويجدر بنا التذكير بأن الإمام ربط بين تقدم المشروع الإسلامي وبين مواجهة حقيقية للمشروع الصهيوني، واضعاً بذلك الحل لإشكالية الصراع والنهضة في العقل الإسلامي.
المصدر:دارالولاية


ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء