عبد الباري عطوان
في وسط مهرجانات الحفاوة التي أقيمت للرئيس الأمريكي دونالد ترامب اثناء زيارته الأخيرة والقصيرة جدا الى المنطقة “احتفالا” بالتوصل الى اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، جرى فرضه بحرب إبادة وتجويع مارستها دولة الاحتلال الإسرائيلي على مدى عامين، وبتواطؤ ودعم مباشر مادي وعسكري من الضيف “العزيز” برز موقفان ايرانيان مشرفان في نظرنا:
الأول: رفض ايران للدعوة التي وجهها اليها الرئيس ترامب بالعودة الى المفاوضات مجددا مع أمريكا اثناء خطابه الذي القاه في الكنيست الإسرائيلي، وحظي به بعدة جولات من التصفيق وقوفا.
الثاني: اعتذارها عن قبول الدعوة التي بعثها اليها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للمشاركة في قمة شرم الشيخ للسلام التي تزعمها مع الرئيس ترامب، بحضور قادة وممثلي حوالي 20 دولة، كان من المفترض ان تكون إسرائيل من ضمنها.
***
اذا بدأنا بالشطر الأول، أي دعوة ترامب لإيران بالعودة الى مائدة المفاوضات، فان الرد القوي والمشرف والمفحم عليها جاء على لسان عباس عراقجي وزير الخارجية الذي قال فيه “لا يمكننا التعامل مع الذين هاجموا الشعب الإيراني، وما زالوا يهددون بفرض المزيد من العقوبات علينا”.
ويأتي موقف الوزير عراقجي منسجما مع موقف السيد الامام علي خامئني المرشد الأعلى تجاه هذه المسألة، الذي قال “الشروط الامريكية للحوار وانهاء التوتر في العلاقات كانت مشينة ومبالغ فيها، وأبرزها وقف كامل لتخصيب اليورانيوم كليا”، وتسليم 450 كيلوغراما من اليورانيوم المخصب، وأضاف “ان مشكلة طهران مع واشنطن انها تريدها ان تتحول الى تابع لامريكا واداة لها، وهذا مرفوض كليا”.
اما الموقف الإيراني الثاني، أي الاعتذار عن قبول دعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لحضور “قمة السلام” في شرم الشيخ بحضور الرئيس ترامب، فكان موقفا مشرفا أيضا، وكان هذا الرفض ليس ضد مصر، وانما تجنبا لمصافحة او التقاط صور مع رئيس امريكي ارتكب جريمتين رئيسيتين بحق ايران:
الأولى: في شهر حزيران (يونيو) الماضي عندما أرسل قاذفاته العملاقة لضرب المنشآت النووية الإيرانية دعما لعدوان إسرائيلي وبطلب وتنسيق مع نتنياهو، وجاءت النتائج عكسية.
الثانية: الغاء الاتفاق النووي الذي جرى التوصل اليه من قبل الدول الست العظمى عام 2015، وفي عهد ولاية ترامب الأولى، وكان نتنياهو حريصا على الإشادة وتقديم الشكر لترامب لإقدامه على هذه الخطوة بطلب منه اثناء خطابه في الكنيست، وإعادة الحصار والعقوبات على ايران، بهدف تجويع شعبها وتحريضه على “الثورة” والانقلاب على نظامه الحالي، والإتيان بنظام عميل لامريكا، وكان هذا الإلغاء أعظم هدية لإيران والمرشد الأعلى خصوصا.
القيادة الإيرانية، اتفق معها البعض او اختلف، كانت مصيبة جدا في مواقفها هذه، سواء الرافضة للاستجابة لدعوة ترامب للحوار، او تجنب لقائه في قمة شرم الشيخ، والانضمام الى جوقة النفاق له بالتالي، فكيف يهرول وفد ايراني للمشاركة في مفاوضات مع عدو (أمريكا) قصف بلاده بالصواريخ، ودماء شهدائه لم تجف بعد، وكيف يتواجد وزير خارجيته في قمة شرم الشيخ، كان معظم المشاركين فيها من الدول العربية المطبعة مع دولة الاحتلال احتفالا بوقف اطلاق نار هش معها، لا نتوقع له لن يعمر طويلا، ومن جولة واحدة فقط، ليس لوقف حرب الإبادة، وحقن دماء أبناء القطاع (70 الف شهيد 20 الفا منهم من الأطفال)، وانما للإفراج عن جميع الرهائن الإسرائيليين حتى يفوز “العريس ترامب بجائزة “نوبل” للسلام سواء هذا العام او القادم.
***
هذا الرئيس الأمريكي الذي حصل على أطنان من المديح سواء في الكنيست او في شرم الشيخ، لم يعترف حتى هذه اللحظة بحل الدولتين، او بارتكاب الجيش الإسرائيلي حرب الإبادة والتجويع في قطاع غزة، ولم يتردد لحظة في دعم قيام إسرائيل العظمى على حساب ست دول عربية وإسلامية، بل ومهد لها بمطالبته “بتسمين” دولة إسرائيل النحيفة، وتأييد ضم القدس الشرقية، ونقل سفارته اليها، وهضبة الجولان، والضفة الغربية، هذا الرئيس الذي تبنى السردية الإسرائيلية بإغتصاب منفذي عملية “طوفان الأقصى” قبل عامين، لفتيات يهوديات واحراق اطفال رضع احياء في الافران، وقدم 26 مليار دولار دعما للعدوان الإسرائيلي في غزة ولبنان واليمن وايران، ورفع الحظر عن تزويدها بالأسلحة الفتاكة المتطورة، هذا الرئيس لا يستحق المصافحة، ولا المجاملة، بل يستحق النبذ، وما هو اكثر من ذلك، ويعف لساننا وأدبنا عن ذكره.
حرب الـ 12 يوما الأخيرة التي إستنجدت إسرائيل طوب الأرض لوقفها بعد ان دمرت الصواريخ الإيرانية المتطورة نصف تل ابيب الجنوبي، ومعظم معهد وايزمان للتكنولوجيا في قلبها، وقتل واصابة مئات المستوطنين، هذه الحرب وتطوراتها هي التي دفعت ترامب لمطالبة إيران بالعودة الى المفاوضات، لانه يريد انقاذ “إسرائيل” وإطالة عمرها، والقواعد الامريكية في المنطقة، وحلب حفنة جديدة من التريليونات العربية لإنقاذ الاقتصاد والدولار الأمريكي من الانهيار.
الحرب القادمة والوشيكة لن تكون مثل معظم الحروب السابقة طريقا من اتجاه واحد، فالمقاومة الفلسطينية باقية وتحكم وتتوسع، واليمنية مستمرة بقوة، واللبنانية عائدة حتما، والصواريخ والغواصات الإيرانية تتطور، والخلطة النووية جاهزة واوشكت على النضوج الكبير.. والأيام بيننا.
رئيس تحرير جريدة رأي اليوم العالمية .
----------
القسم العربي ، الشؤون الدولية ، نقلا عن جريدة رأي اليوم .