عصا موسى تحطم عربات الطغيان وتفضح خذلان الأمة

عصا موسى تحطم عربات الطغيان وتفضح خذلان الأمة

مهدي مبارك عبد الله

منذ اللحظة الأولى لإعلان الاحتلال الإسرائيلي إطلاق عملية “عربات جدعون 2” الهادفة لاحتلال كامل مدينة غزة بدا واضحا أنه يواصل الارتماء في وهم القوة المطلقة في سعيه لإخضاع مليون فلسطيني بالنار والحديد لكنه فوجئ بأن غزة التي تقف وحيدة تحت القصف والحصار لم تستسلم ولم ترفع الراية البيضاء بل باغتته لتعلن أن المعركة ليست مجرد مواجهة عسكرية بل صراع وجود بين طغيان يستند إلى أساطير توراتية محرفة وإيمان يستمد شرعيته وقوته من كتاب الله ومعجزاته الخالدة.

كتائب القسام اختارت أن يكون الرد على غطرسة الاحتلال ليس باسم سلاح أو قائد عسكري في عملية نوعية شكلت صفعة على وجه قادته بنداء سماوي يعيد إلى الأذهان قصة المعجزة التي كسرت فرعون وجبروته لتقول غزة للعالم إن البحر سينشق مرة أخرى لينقذ المستضعفين وإن هذه الأرض لا يحميها الحديد ولا الصواريخ وحدها بل وعد الله لعباده الصادقين وإن الطغاة مهما استكبروا فإن مصيرهم الغرق في اوحالها.

بعد ساعات قليلة من إعلان الاحتلال اطلاق عمليته البرية باسم “عربات جدعون 2” والتي جاءت استكمالًا لفشل عمليته الأولى أعلنت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس إطلاق عملية “عصا موسى ” في الثالث من سبتمبر/ أيلول الجاري وهي تؤكد أن مقاتليها جاهزين للتصدي لتوغل القوات الإسرائيلية في القطاع بكل بطولة وشجاعة بعدما أصر الاحتلال على استدعاء اسطورة العدوان بنسخة ثانية أكثر دموية.

المشاهد المصورة التي بثتها المقاومة من جباليا لم تكن مجرد لقطات حرب بل كانت شهادات حية على أن الدم الفلسطيني أقوى من دبابات الميركافا وعربات النمر وأن عزيمة المقاتل الذي يزرع عبوة ناسفة تحت ناقلة جند ثم يعود سالمًا هو أشد وقعًا من ألف خطاب سياسي وأن المجاهد الذي يعتلي دبابة مغلقة ويحاول فتح قمرة قيادتها يختصر كل معاني البطولة التي تعيد تعريف الشجاعة في زمن الانكسار العربي ولقد جاءت تسمية “عصا موسى” لتضع الاحتلال أمام مرآة التاريخ وتذكره أن القوة ليست في العدة والعتاد بل في الإيمان الذي يحول أداة بسيطة إلى معجزة تهز العروش وتبتلع قوات الطغاة وهذه الصور اصبحت رسائل مدوية للعالم بأن غزة لا تهزم وأن دماء المقاومين هي المعجزة الحقيقية التي ستربك آلة الحرب والعدوان وان الرجال الاشداء سيخرجون من تحت الأرض وقلوبهم معلقة بالسماء ليصنعوا النصر ويسقطوا معادلة القوى وهم يحذرون جيش الاحتلال بان ( كل توسع في عدوانه سيدفع ثمنه جنوده وأُسراه).

اختيار الاحتلال تسمية عمليته بـ “عربات جدعون 2” جاءت لاستحضار رموزًا توراتية استعمارية بائدة لكن الوثائق الداخلية الإسرائيلية كشفت عكس ما روج له من خلال عدة تقارير أقرت بفشل “عربات جدعون 1” واكدت أن حماس لم تهزم عسكريًا ولا سياسيًا وأن الجيش استنزف قواته ووقع في أخطاء قاتلة تناقض مع مجمل عقيدته القتالية فكيف سينجح اليوم في ما عجز عنه بالأمس سيما وان غزة اصبحت أكثر صلابة وصمود ومقاومتها أشد خبرة وعزيمة كما خلصت التحقيقات بان غزة لن تنكسر والدم الفلسطيني لن يكون رخيصًا وكل محاولة لفرض الاستسلام ستنتهي إلى خيبة فاضحة.

الإعلام العبري بدوره حذر من تسمية “عصا موسى” وأكد انها ستقلب الطاولة على إسرائيل رمزيًا ونفسيًا وتجعل الجنود يشعرون بأنهم يواجهون معركة مقدسة تتجاوز جميع الحسابات العسكرية سيما وان المقاومة كشفت للعالم كله بان هذه المعركة ليست حربًا على رقعة جغرافية ضيقة بل هي معركة هوية وكرامة ووجود لشعب مسالم لا زال يرزح تحت نير الاحتلال.

في المقابل جاءت تسمية المقاومة لعمليتها بـ”عصا موسى” بمثابة ضربة في الصميم لوعي الاحتلال فالعصا التي تحولت إلى حية عظيمة أمام فرعون وشقت البحر أمام بني إسرائيل تعود اليوم كرمز للقدرة على قلب موازين القوى وهي تذكر بأن ما يعتبره الاحتلال تفوقًا عسكريًا ليس إلا وهمًا سينهار أمام إيمان لا يُقهر وهي تسمية ستحول المعركة من كونها حربًا محدودة على الأرض إلى معركة رمزية على مستوى الأمة كلها وترفع معنويات الشعوب وتبث الرعب في نفوس الجنود الإسرائيليين وتجعلهم يشعرون أنهم يواجهون وعدًا إلهيًا محتوما لا آلة عسكرية فقط.

اعتماد عصا موسى من قبل المقاومة لم يكن صدفة ولا مجرد فكرة عابرة بل إعلان نفسي عميق بأن المعركة أكبر من صدام عسكري محدود وإنها مواجهة بين رواية استعمارية توراتية مزيفة تستحضر الماضي لتبرير القتل وبين رمز قرآني خالد كسر جبروت فرعون وشق البحر لينقذ المستضعفين وقد لاقت هذه التسمية تفاعلًا شعبيًا كاسحًا على منصات التواصل الاجتماعي حيث رأى الناشطون أنها ليست مجرد اسم بل استراتيجية لغوية وروحية تستدعي الوحي في مواجهة الأسطورة التوراتية وان المقاومة لم تختر سلاحًا أسطوريًا ولا آلةً عسكرية بل استعادت رمزًا قرآنيًا يعيد للأذهان بيعة الجهاد في سبيل الله التي غيرت مسار التاريخ بعدما شقت عصا موسى البحر وأغرقت فرعون وجنوده وان معجزة السماء لم تكن يوما مع المعتدين بل مع أصحاب الحق وأن النصر لا يقاس بعدد الدبابات والحشود بل بصدق الأيمان وسلامة العقيدة خصوصا وان غزة كشفت منذ الساعات الأولى زيف الرواية الصهيونية وأثبتت أن ما يسمونه “جدعون” ليس سوى وهم تنهار أركانه أمام عزيمة مقاوم يتسلح ببندقية الحق وعبوة الإيمان وإن النصر لا تصنعه الجيوش الضخمة ولا التقنية المتقدمة بل الإيمان العميق واليقين الصادق بوعد الله ونصره.

الاحتلال أراد من عملية “عربات جدعون 2” أن يعيد ترسيخ أسطورته عن التفوق والقدرة على الحسم مستندًا إلى شخصية توراتية صاغتها نصوصه القديمة ليمنح جنوده معنويات في معركة يخوضها ضد مدينة محاصرة حيث حشد دباباته وجنوده ليحتل غزة وهو يظن أن طول امد الحصار والتجويع والدمار كفيل بكسر إرادة مقاومتها وابنائها وأن آلة الحرب كافية لفرض الاستسلام فإذا به يواجه مقاومًة شرسة تؤمن بان السلاح إيمان في الصدور قبل أن يكون حديدًا في الميدان.

ما يجري في غزة ليس مجرد معركة عابرة بل مرحلة مفصلية في تاريخ الأمة يكتبها المقاومون بدمائهم وشجاعتهم لكن خلف هذه الرمزية العظيمة يقف مشهد أكثر مأساوية ومرارة حيث تباد غزة على مرأى العالم وتدمر بيوتها فوق ساكنيها ويموت أطفالها بالحصار والتجويع وتقتلع من تحت الركام جثث الأبرياء فيما عواصم عربية لا زالت غارقة في صمتها العميق أو منشغلة بمؤامراتها الصغيرة وبعضها متواطئ بالمال والسياسة والتنسيق الأمني ودعم الاحتلال وترويج شرديته الكاذبة.

الشعوب العربية مكبلة بين قمع داخلي رهيب وتضليل إعلامي منظم مما حول المأساة في غزة إلى اختبار أخلاقي لم يعد يفشل فيه الغرب وحده بل سقط فيه ايضا جزء كبير من النظام العربي الرسمي وكأن أصوات الأمهات تحت الركام لم تصل إلى قصورهم المذهبة وان دماء اطفال غزة لا تعني شيئًا لهم ومع كل ذلك السوداوية نهضت المقاومة بعنفوان من تحت الركام لتقول بقوة نحن ( هنا لا ننهزم ولن نسقط ) وهذه العصا التي واجهت فرعون الماضي تتجدد اليوم لتواجه الصهاينة فراعنة العصر الحديث وتؤكد إن البحر سيفتح مرة أخرى وإن الطغيان مهما بلغ سيتلاشى وإن استغاثة غزة ليست مجرد صرخة مدينة محاصرة بل هي وجع أمة بكاملها ونداء للتاريخ فمن يقف اليوم مع غزة يقف مع الحق والكرامة والحرية ومن يصمت أو يتواطأ فسيكتَب اسمه في سجل العار وأي خزي أعظم من أن تُذبح غزة على الهواء مباشرة بينما بعض العواصم العربية تفرش السجاد الأحمر للقتلة وتشاركهم في تزييف التاريخ وتمدهم بالغذاء والدواء برا بعدما اغلق الحوثيون عليهم ابواب البحار.

لقد راهن الاحتلال على أن الحصار الطويل والتجويع المستمر والتدمير الممنهج سيكسر غزة لكنه فوجئ بأنها تزداد صلابة مع كل جولة وأنها قادرة على قلب المعادلة وجعل كل محاولة للتوغل كارثية على جنوده بل وأنها تمتلك فن تحويل المعركة من مواجهة عسكرية تقليدية إلى حرب رموز ومصطلحات تفضح عجزه وتكشف ضعفه أمام شعبه والعالم وفي الوقت الذي ظن فيه أن عملية “عربات جدعون 2” ستمثل نقطة تحول مفصلية في السيطرة على غزة اثبتت المقاومة أن ما كتبه الله لا يُغلب وأن العصا التي شقت البحر ستشق دروع دباباته وتحطم عرباته وتدمر أسوار كيانه الهش.

غزة اليوم تكتب بدمائها فصلاً جديدًا من التاريخ المشرف لا تصنعه مؤتمرات السلام المزيّفة ولا تكتبه بيانات الجامعة العربية العقيمة بل يسطره طفل غزي اعزل يواجه القصف ومقاتل يخرج من نفق وأم تودع ابنها بدموع العزة دون ذل او انكسار وهي تصدح بصرخة المظلومين التي تبشر بان البحر سينشق مرة أخرى وان الطغيان مهما علا فمصيره الغرق وان المستضعفون مهما طال حصارهم فمالهم الشهادة او النصر حيث تتجسد اليوم بين ركام المنازل والمقابر الحقيقة العارية بأن الكرامة لا تستجدى وأن الشعوب وحدها هي القادرة على قلب الموازين أما الأنظمة المرتجفة والراكعة فلن يذكرها التاريخ إلا في فصل الخيانة ومواقف العار.

عصا موسى في جباليا ابتلعت أسطورة جدعون وأسقطت أوهام جيش لا يقهر ومن قلب الأنقاض والحصار اطلت غزة على العالم وهي ترفع رايتها بدماء اطفالها وتبعث للعالم رسالة مدوية بانه لا رهان على أنظمة عربية غارقة في سباتها العميق ولا على مؤسسات دولية منحازة وعمياء بل على شعوب يجب ان تنفض عنها ركام الخوف واسباب التردد وان تستعيد زمام المبادرة لنصرة المقاومة وهي تقول للغزاة ( هنا يقف الحق وهنا ستتكسر أوهامكم ) في معركة صراع بين حضارة الموت والارهاب وارادة الامل والحياة.

ختاما: بقي ان نقول ان غزة لا تقاوم بالسلاح فقط بل تعيد كتابة تاريخ المقاومة والنضال من بين حواريها بدماء شهدائها التي تولدت منها المعجزات لمقاومون ابطال راهنوا على ربهم و إيمانهم وهم يملؤون الأرض عزة وشموخ ويبعثون في الأمة روحًا ثورية للنهوض والتصدي لمعركة توراتية لا تستهدف شعب فلسطين وحده بل تهدد وجود كل بلد عربي ومسلم فغزة لا تقاتل فقط من أجل نفسها بل تكتب بصمودها وجهادها تاريخ أمة بأكملها وهي ترفع شعارها الخالد إن معي ربي سيهدين وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية

-----------

القسم العربي ، الشؤون الدولية ، جريدة (رأي اليوم) 5 أيلول 2025 .

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء