شهر الفضائل والرحمة

شهر الفضائل والرحمة

بسم الله الرحمن الرحيم 

           قد تمر على الانسان، لا سيما، الانسان المسلم، فترة او برهة من الزمن لا يدرك كيف جاءت وكيف مرت عليه وانتهت بلا رجعة! وهو يامل ان تحدث ثانية للذة شعر بها خلال مرورها، او لا يامل، لما عاناه في تلك اللحظة من الم واضطراب! ومهما كان ذلك، فهذا المخلوق الذي اراده الله تعالى، وهكذا حدث، ان يكون اشرف ما وجد على وجه الارض، لو رجع الى نفسه هنيهة او ثوان، لعلم حقيقة الوجود والحياة والكائنات، التي تسبح ليل نهار وهي في صلاة دائمة بل وركوع وسجود دائمين، وعرف كنه ماهيته وخلقه وتواجده على الارض منذ الازل الى يومنا هذا. فسر الوجود، هو، وجود الانسان بذاته وبما اودعه الخالق جل جلاله، في غياهب بدنه من جوارح وجوانح، وقد اشار سيد الشهداء (ع)، في دعاء عرفة الى تفاصيل ذلك واحدا فواحدا، لان ادراك الحقيقة وازالة ما يعتريها من غبار، ليس فقط، اقتراب الفرد العبد، من معبوده وخالقه وربه، بل و(ربما) وصوله الى الصراط المستقيم الذي يدعو الانسان ربه، ملتمسا، بالهداية اليه، في كل صلاة يرفعها الى بارئ النسم تعالى، مستعينا به لطي الحياة الدنيا، بما فيها من تعرجات واعوجاجات، ونعرات هنا وهناك تلف مسارها، وتختطف الابصار، وقد اضاء الله عز وجل له الطريق وما ينشعب منه ..." انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا " (1) ... فقد وضح المسير والمسار، وعلى هذا المخلوق المتحلي بالعقل والمنطق، ان يختار الرافد الاوفى، منتهل الملائكة والصالحين، او بؤرة السعير، مشرب الشياطين واقزامهم من الرجال والنساء ... ف " يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه " (2) ... تسعى اليه، متحملا مصاعب جمة ومتجاوزا طرقا وعرة، بما فيها من اغوار وانجاد، للوصول الى المراد وما ادراك ذلك ... انه الحقيقة كما هي، خالصة بما تحتويه وتضمه ... بل السعادة بكل ما تحمله من معنى، وحبل الوصال الذي تتشبث به لتختبر نفسك بنفسك، في هذا الحقل، هو شهر رمضان الكريم ... الفضيل، فان اجتزته بسلام، وانت اعرف بذلك، فقد فزت ... وفوزك هذا، بداية تنقية النفس ومعرفة الوجود، اذا ما استطعت الحفاظ على صيامك، وقعودك وقيامك وصيانة ذلك من " شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس " (3). فهذا الشهر الاغر، الذي جعله الله جل جلاله، وسيلة للعبد، للتقرب الى الملكوت الاعلى، ونفض الغبار عن الروح المودعة في الانسان، وازالة الصدا عنها، وتطهيرها من الدنس ... شهر قلما يضاهيه احد الشهور، لانه اكتض بالاحداث منذ بزوغ الاسلام وقبيل انتصار المسلمين وفتح مكة، الى العصر الذي نعيش فيه. فقد وقعت في السابع عشر منه، في العام الثاني للهجرة، غزوة بدر، بين المسلمين بقيادة الرسول الاعظم (ص) وقبيلة قريش وحلفائها، بقيادة عمرو بن هشام المخزومي القرشي، وانتهت بانتصار المسلمين الباهر، ومهدت الطريق للفتح المبين، في العشرين منه، في السنة الثانية للهجرة ايضا .(4) ... ونزول القران الكريم، وليلة القدر التي، هي،  " خير من الف شهر " _ (5)، واستشهاد امير المؤمنين (ع) اسد الله الغالب، في الحادي والعشرين منه، على يد شقي، متحجر، قاده فكره الظلامي المتعفن، الى اغتيال ركن رفيع من اركان الهدى، لا تزال تداعيات شهادته ومناجاته في مسجد الكوفة، تصم الاسماع لحد الان ... حدث ذلك في السنة الاربعين للهجرة، وله (ع) ثلاث وستون سنة. ورد عن الامام الباقر (ع) : ان الامام عليا (ع) قال في وصيته : " ان اخرجوني الى الظهر، فاذا تصوبت اقدامكم واستقبلتم ريح فادفنوني، وهو اول طور سينا ء "  ففعلوا ذلك. (6). فالحادثتان العظيمتان، اي، ليلة القدر ونزول القران الكريم فيها، وشهادة مولى المتقين، وامام الصالحين، وامير المؤمنين، علي بن ابي طالب (ع) ... غيرتا مسار التاريخ الانساني برمته وخاصة التاريخ الاسلامي، وانارت للبشرية جمعاء، طريق الهدى والسعادة الابدية، ولا غير ذلك. فليلة القدر، اضافة الى انها ليلة التنزيل ..." انا انزلناه في ليلة القدر ..."  (7)، هي ليلة مباركة، فيها الفصل والتقدير ... " تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل امر ..."  (8) ... والسلام ... " سلام هي حتى مطلع الفجر ."  (9)، والغفران. عن النبي (ص) : من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه. (10). وروي عن ابي عبد الله الصادق (ع)، انه قال :  " ... فغرة الشهور شهر الله عز ذكره، وهو شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر ..."  (11). وتوالت الاحداث التي غيرت مسار التاريخ الاسلامي، بشكل عام، في شهر رمضان الفضيل. ففي الثاني منه عام 114 الهجري، وقعت معركة بلاط الشهداء الشهيرة في بواتييه، بفرنسا، بين المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي، والفرنجة بقيادة شارل ماريل، وفي الرابع منه عام 666 للهجرة، نجح المسلمون بقيادة الظاهر بيبرس، باسترداد مدينة انطاكية، من الصليبيين بعد احتلال لمدة 170 عاما ! ... وفي السادس منه، سنة 223 الهجرية، جهز الخليفة العباسي المعتصم جيشا لحرب الروم، استجابة للصرخة الشهيرة، لاحدى النساء المسلمات (وا معتصماه)، وحاصر عمورية الى ان سقطت، ودخلها المسلمون في السابع عشر من رمضان ... في العاشر منه، في تاريخنا الحديث، عام 1393 للهجرة، هاجمت مصر وسوريا، بعد عبور قناة السويس، الكيان الصهيوني، محطمة خط بارليف فخر التحصينات الصهيونية، وقامت عدة دول عربية نفطية، بوقف تصدير النفط الى امريكا، عقب ذلك في 21/ اكتوبر/ 1973 م. ... وفي العشرين منه، في السنة الثامنة للهجرة، حدثت معركة حطين، التي انهت الوجود الصليبي في المشرق، بقيادة السلطان الناصر صلاح الدين الايوبي، وفي الخامس والعشرين.، عام 658 الهجري، ادت معركة عين جالوت، بين سلطان مصر سيف الدين قطز والمغول، الى انحسار نفوذ  المغول في بلاد الشام نهائيا. (12) ... هذه ومضات ساطعة، مما حدث في رمضان المبارك، واعطى قوة ومنعة اكثر للاسلام والمسلمين. فاليعتبر المسلمون بذلك، لاعادة مجدو عظمة الامة الاسلامية مرة اخرى ... فهذا الشهر الاغر، جدير، بل واكثر من ذلك، مما نقدمه له ونحتفي به وبمقدمه ... قال الامام الخميني (قدس سره) :  " ان شاء الله تدخلون شهر رمضان المبارك، بسلامة نفس وتجدون انفسكم فيه، في ضيافة الله تبارك وتعالى، وترون الله مضيفكم الحاضر، ولو اردتم التجاسر، لا سمح الله، على احد، فالتفهموا انكم انما تتجاسرون على عبد الله في محضر الله، واذا استغتبتم احد المؤمنين، فالتعلموا بانكم تستغيبونه في محضر الله، وطبقا للروايات، فان اعمالكم، تعرض على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. " _ (13). .. ان المتصفح لكتاب شرح دعاء السحر، لسماحة الامام (قدس سره)، يرى بوضوح، المنزلة الرفيعة التي حظي بها سماحته، وهو في عنفوان شبابه، فقد قام بذلك عام 1347 ه. ش. (1968ه. ق.)، وهو في السابعة والعشرين من عمره. والدعاء المذكور كما روي عن مصادر موثوقة، رفيع في كل حرف وكلمة من حروفه وكلماته، فقدنقل عن ايوب بن يقطين، انه كتب الى ابي الحسن الرضا عليه السلام، يساله ان يصحح له هذا الدعاء، فكتب اليه : نعم وهو دعاء ابي جعفر عليه السلام بالاسحار في شهر رمضان ... قال ابو جعفر (ع): لو يعلم الناس من عظم هذه المسائل عند الله وسرعة اجابته لصاحبها، لاقتتلوا عليه ولو بالسيوف، والله يختص برحمته من يشاء. (14). ومما قاله الامام (قدس سره) حول الدعاء المذكور:  " رايت ان الدعاء المشهور، الموسوم بالمباهلة، الماثور من الائمة الاطهار (ع) للتوسل في الاسحار، الى نور الانوار، من اجل الادعية قدرا وارفعها منزلة، لاشتماله على الصفات الحسنى الالهية والامثال العليا الربوبية، وفيه الاسم الاعظم والتجلي الاتم الاقدم، فاردت ان اشرحه من بعض الوجوه بمقدار الاستعداد، مع قلة الباع وقصور الاطلاع ... ولكن اقول وبالحق اقول:

جاءت سليمان يوم العيد قبرة

اتت بفخذ جراد كان في فيها

ترنمت بفصيح القول واعتذرت

ان الهدايا على مقدار مهديها. _ (15).

فعلى الانسان، اذن، هذا المخلوق التائه، الحائر ... المغرور، العودة الى الطريق القويم، وانتهاز رمضان المبارك، جاثيا على اعتابه، ممرغا خديه بالتراب ومعفرا وجهه ... تائبا، كعبد ابق، ومريد هائج، عليه العودة الى مولاه وراحمه ومنتهى رجاه ... " يا ايها الانسان ماغرك بربك الكريم ... " _(16) ...؟ ... وهذا ابن دراج القسطلي (347 _ 421 للهجرة. )، الذي قال عنه الثعالبي: كان في الاندلس، كالمتنبي بالشام، ينشد لرجب وشعبان ورمضان:

فلئن غنمت هناك امثال الدمى

فهنا بيوت المسك فاغنم وانتهب

تحفا لشعبان جلا لك وجهه

عوضا من الورد الذي اهدى رجب

فاقبل هديته فقد وافى بها

قدرا الى مد الصيام اذا وجب

و استوف بهجتها وطيب نسيمها

فاذا دنا رمضان فاسجد واقترب. _ (17).

_______

1_ 3، الانسان. / 2 _ 6، الانشقاق. / 3_ 4، 5، 6، الناس. / 4 _ بدر، اسم بئر بين مكة والمدينة. / 5_ 3، القدر. / 6_ تهذيب الاحكام، 6/ 34. الظهر، بفتح الظاء، احداسماء النجف الاشرف. / 7_ 1، القدر. / 8_ 4، القدر. / 9_ 5، القدر. / 10_ رواه البخاري في صحيحه. / 11_ الكافي، ج 4، ص 66. / 12_ بتصرف ... عن روتانا نت. / 13_ صحيفة الامام العربية، ج 2، ص 364. / 14_ عن : رضي الدين ... بن طاووس في كتابه (اقبال الاعمال ). / 15_ في تمهيد لكتاب : شرح دعاء السحر. / 16_ 6، الانفطار. / 17_ عن : ارشيف islam on line .

==== انطاكية وعمورية، مدينتان قديمتان، تقعان حاليا في الاراضي التركية.

_______

د. سيد حمود خواسته، القسم العربي، الشؤون الدولية، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الامام الخميني (قدس سره) .

ارسل هذا الخبر الی الاصدقاء